العدد 914 - الإثنين 07 مارس 2005م الموافق 26 محرم 1426هـ

ميزان عادل وجمع تكاملي بين ثنائيات الوجود

نحن والوسطية في عالم اليوم

تعددت مفاهيم الوسطية بتعدد المقبلين على القول فيها تعبيرا عن منطلقاتهم الفكرية وانتماءاتهم الدينية ومذاهبهم السياسية، إلا أن مفهوم الوسطية العام يأتي على معنى وسط الشيء، وبمعنى آخر خير الأمور أوسطها، أي أن أوسط الخيارات وأفضلها هو أوسطها.

و"التطرف" نحو اليمين أو نحو اليسار هو مصطلح يضاد مصطلح "الوسطية" الذي هو من الوسط "الواقع بين طرفين"، كما يقول الأصبهاني في مفردات غريب القرآن. ومعنى الوسطية يحمل في طياته معنى "العدل".

ولفظ السماحة في لسان العرب "يطلق على سهولة التعامل فيما اعتاد الناس فيه المشادة". كما يقول الشيخ محمد الطاهر بن عاشور عن معنى السماحة في كتابه "أصول النظام الاجتماعي في الإسلام"، انها وسط بين الشدة والتساهل.

وتتصف الوسطية بأنها نهج تعاملي يقوم على اتخاذ موقف متوازن بين حالتين سلوكيتين قابلتين للتنظير والتحليل والمفاضلة والمقاربة بينهما وصولا إلى الموقف المناسب الذي لا يتعارض مع ثوابت القيم والشرائع والأعراف.

المعنى السائد للوسطية

هو الموقف الوسط بين طرفين متعاكسين أو بين فكرتين متناقضتين، وهو أساس التوافق الاجتماعي وبناء العلاقات الإنسانية بين البشر.

اللغة و الاصطلاح

في اللغة وسط الشيء، "يسطه" وسطا، وسطة: صار في وسطه، يقال وسط القوم، ووسط المكان، فهو واسط، والأوسط: المعتدل من كل شيء. ويقول الراغب الأصفهاني في مفرداته إن الوسط: ما له طرفان متساويا القدر، ويقال ذلك في الكمية المتصلة كالجسم الواحد إذا قلنا: وسطه صلب، وضربت وسط رأسه بفتح السين، ووسط بالسكون، يقال في الكمية المنفصلة كشيء يفصل بين جسمين نحو وسط القوم كذا، والوسط تارة يقال فيما له طرفان مذمومان يقال: "هذا أوسطهم حسبا"، إذا كان في واسطة قومه وأرفعهم محلا كالجود الذي هو بين الإسراف والبخل، فيستعمل استعمال القصد المصون عن الإفراط والتفريط فيمدح به نحو السواء والعدل والنصفة، كقوله تعالى: "وكذلك جعلناكم أمة وسطا". "آل عمران: 143"، وعلى ذلك يعتبر الوسط عدلا فيقال: الوسط من كل شيء أعدله "وكذلك جعلناكم أمة وسطا"، أي: عدلا، وإلى ذلك يقال عن وسط الدار، والوسط يقتضي اعتدال الأطراف إليه، ولهذا قيل الوسط العدل، والوسط هو الشيء الذي لا ينفك عن الشيء ذاته كوسط الدار ووسط الرأس، والوسط للمذكر وللمؤنث وللواحد والجمع، كما يطلق بمعنى المعتدل فيقال: شيء وسط أي بين الرديء والجيد.

غير أن ابن أبي الحديد يرى أن الوسط هو خيار كل شي، أما الطبرسي فلا يرى فرقا بين العدل والخيار لأن معناهما في نظره واحد فيقول: الوسط: العدل، وقيل الخيار ومعناهما واحد لأن العدل خير والخير عدل. وأخذ من المكان الذي يعدل المسافة منه إلى أطرافه، وقيل بل أخذ من التوسط بين المقصر والمغالي. قال صاحب العين: الوسط من كل شيء أعدله وأفضله. والنتيجة أن الوسط: خيار وعدل وقصد كل شيء.

أما اصطلاحا فالوسطية: حالة - خطابية أو سلوكية - محمودة تعصم الفرد من الميل إلى جانبي الإفراط والتفريط. ومفهوم الوسطية قديم قدم العدل الذي يمتد إلى عمق التاريخ، فكان لفظ الاعتدال معبرا عن مفهوم الوسطية والتوازنية التي تنشدها الشعوب المضطهدة والمقهورة أما لفظ الوسطية، فكان نادرا في كتب اللغة والأدب.

الرؤية الفلسفية للوسطية الكونية

الوسطية في الفلسفة تعني الجمع التكاملي بين ثنائيات الوجود، فالرؤية الوسطية هي نقيض تام للرؤية الواحدية السائدة، فإذا كانت الواحدية تقسم الوجود إلى "ثنائية تناحرية" بين "الخير والشر" فإن الوسطية تقسم الوجود إلى "ثنائية انسجامية تكاملية" بين أطراف مختلفة تكمل بعضها بعضا: الذكورة والأنوثة، النهار والليل، السماء والأرض، الشمس والقمر، الدنيا والآخرة... إلخ، ومن الطبيعي أن الثنائية التكاملية لا تنفي ثنائية الخير والشر، بل ترى أن الشر يكمن في التطرف، أي تفضيل طرف معين من الثنائيات ونبذ الطرف الآخر... وأن الخير يكمن في الجمع الانسجامي بين أطراف الثنائيات، فالخير يكمن في "الوسطية" أي في انسجام ثنائيات الحياة وتكاملها، والشر يكمن في "الواحدية" أي في صراع هذه الثنائيات وسيادة طرف منها على حساب الطرف الآخر.

فالذكورة وحدها أو الأنوثة وحدها تعني الاضمحلال والموت، ولكن انسجامهما وتوحدهما يعني الخصب والولادة وديمومة الحياة، وكذلك التمسك بتطبيق حرفيات الماضي السلفي وحده يعني البقاء في الماضي، وكذلك التمسك بحداثة المستقبل وحده يعني العزلة عن الأصالة والتراث، أما الانسجام بين الموقفين فيعني "الحاضر المتجدد" أي الجمع بين عراقة الماضي واستشراف المستقبل، ويبقى الاعتدال بين الصيف والشتاء بوقوع فصلي الربيع والخريف...

ومما تقدم نجد أن الوسطية هي موقف ورؤية منفتحة وواسعة يمكن أن تتعامل مع مختلف المعتقدات السياسية والثقافية والدينية، ويكمن جوهر الوسطية في التعددية المنسجمة بين تلك الحياة والعقل، وفي الإيمان بأن الإنسان فرد وجماعات، يمتلك القدرة الداخلية على تطويع الحياة الدنيوية لصالحه باستخدامه بحكمة تلك الطاقة الكونية الكامنة التي أودعها الله في ذاته. وكان الرسول الكريم "ص" يدعو إلى الوسطية والتوازن بين الدنيا والآخرة.

مفهوم الوسطية في الإسلام

وفي القرآن الكريم ورد قوله تعالى: "وكذلك جعلناكم أمة وسطا"، أي أمة عدل و"سماحة". ينظم الإسلام شئون الحياة لها ولكل الشعوب والأمم في كل العصور والأزمان. والإسلام دين يربي على الوسطية في كل شيء، وسطية العقيدة والتعبد، والتعامل والمنهج، "وكذلك جعلنـكم أمة وسطا" "البقرة، 143" دين حارب الغلو والتشدد، ونهى عن التقعر والتنطع، فقال: "إياكم والغلو، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو"، "بشروا ولا تنفروا".

فكل نقص في حدود الله هو تفريط وتسهيل. وكل زيادة في حدوده سبحانه هي إفراط وغلو، وعلى ذلك يأتي مفهوم الوسطية في الفقه الإسلامي على معنيين، الأول ضمان وسط الشيء الذي يتوسط فيه، فخير الأمور أوسطها، والثاني هو أفضلها وأعلاها وفق الآية الكريمة.

ويوضح الشيخ سلمان بن فهد العودة مفهوم الوسطية في الإسلام بقوله: "هي منهج شرعي بعث به سائر الرسل "ع"، وأنها لا تعني التهوين من شأن حدود الشريعة وعصمها والاتباع لما تهوى الأنفس، وأنها تعني أن يعـمل كل لما خلق له، وأنها لا تعني إلغاء التعددية بل تعني تقريرها وترشيدها، وربما كان هذا المفهوم صعبا عند كثيرين، مع أنه بحمد الله مازال في أهل الإسلام ودعاته خير كثير واعتدال محمود".

وهكذا فإن أمة الإسلام قدوة في وسطيتها بين الأمم، فوسطيتها تنطبق في المكان وفي الزمان، في الفكر وفي السلوك، في العبادة وفي العمل، وفي القيم الأخرى المادية والمعنوية.

الثوابت والوسطية

إن الوسطية والتيسير لا تعني التهوين من شأن حدود الشريعة والاتباع لما تهوي النفس، ولا تعني إلغاء التعددية بل تقريرها وترشيدها. وهناك أصول لا يجوز التوسط فيها فالأصل في جميع الأشياء الوسطية والاعتدال إلا ما خرج بالدليل، أما موقف الوسطية الذي عليه جمهور الإسلاميين فيتمثل في اعتبار السلطة ضرورة اجتماعية وأداة من أدوات الأمة في إقامة عدل الإسلام، لذلك فإن الدولة عندهم وسيلة لا غنى عنها للمجتمع البشري، لإحقاق الحق وإبطال الباطل في الأرض كلها حتى تكون عبادة الله والتقرب إليه بالطاعات وفعل الخيرات أمورا مرغوبا فيها مجزاة من الله، وتكون محاداته بالكفر وانتهاك الحرمات وإشاعة الشرور واقتراف المظالم أمورا بغيضة منكرة، وهذا ما يجعل من تلك الدولة دولة قانون يتمثل في التشريع الأصلي تشريع العقيدة والقيم والحلال والحرام والخير والشر، سواء أكان ذلك في المستوى الفردي أم كان على مستوى المؤسسات الرسمية والاجتماعية، وهذا ما تمثل خلال حكم النبي وخلفائه الراشدين، ومن غير ذلك الالتزام تفقد الأوامر شرعيتها، وتفقد الطاعة موجباتها.

ويشير المجتهدون الإسلاميون كذلك إلى أن نصوص الإسلام جاءت داعية لإقامة العدل وإعلاء كرامة الإنسان في الأرض وهو المقصد الأسمى لبعثة الرسل، وأن فرصة النهوض مرة أخرى في المجتمعات الإسلامية متاحة بالرجوع إلى النصوص الدينية التي تعكس نهج الوسطية في الإسلام والتي تشمل في تطبيقاتها كل المجتمعات على اختلاف معتقداتها ومذاهبها.

* مستشار لرئيس الديوان الأميري - رأس الخيمة - دولة الامارات العربية المتحدة. والمنشور جزء من ورقة قدمت في منتدى الفكر العربي الذي عقد في مملكة البحرين في الفترة من 27 فبراير/ شباط الى 28 من الشهر نفسه تحت عنوان "الوسطية بين التنظير والتطبيق"





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً