العدد 933 - السبت 26 مارس 2005م الموافق 15 صفر 1426هـ

خطأ الحكومة اللبنانية

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

"من قتل الحريري؟" سؤال سيتحول بعد صدور تقرير "لجنة تقصي الحقائق" إلى تهمة سياسية تستهدف الكثير من الرموز الأمنية للسلطتين اللبنانية والسورية. فالتقرير وضع التحقيق في سياق سياسي لأن مهمة "لجنة التقصي" سياسية وليست قضائية "جنائية". فهي لا تملك صلاحيات البحث عن الادلة الجنائية "القضائية" بل وظيفتها محددة وهي قراءة الأجواء التي مهدت أوسهلت أو بررت للجاني تنفيذ جريمته. وبهذا المعنى فإن مهمة "لجنة التقصي" أخطر سياسيا من وظيفة "لجنة التحقيق الدولية" التي رفضتها الحكومة اللبنانية بذريعة السيادة واستقلال القضاء.

"لجنة التحقيق" أقل أهمية من "لجنة التقصي" سياسيا. فالأولى فنية تبحث عن الادلة التقنية ولا يجوز لها اختراق تلك المهمة الجنائية وتوجيه اتهامات سياسية. بينما الثانية فهي سياسية تبحث في المناخات العامة للاستدلال نظريا على الجاني "الهدف السياسي". وبهذا المعنى السياسي تعتبر "لجنة التقصي" أكثر خطورة من "لجنة التحقيق" لأن الأخيرة لا تملك صلاحيات تحديد مواصفات أو رسم ملامح هوية الجاني، بينما الأولى فإن وظيفتها تحديد الجهة ورسم ملامحها من دون أن تعطي الادلة الجنائية. تقرير "لجنة التقصي" رسم ملامح الصورة ووضع سقفا سياسيا للباحث عن ادلة تشير إلى الطرف الذي يقف وراء الجريمة. فالتقرير حدد في صفحاته الطويلة وجهة السير وضبط كل ما يملك من معلومات وادرجها في سياق سياسي يذهب مباشرة إلى طرف معين من دون أن يقدم ادلة جنائية تثبت تلك التهمة لأن وظيفته لا تملك صلاحيات قانونية "قضائية".

للسبب المذكور يمكن القول إن الحكومة اللبنانية اخطأت في تقديراتها. فهي اعتبرت أن "لجنة التحقيق" هي الأخطر بينما واقع الأمر أن "لجنة التقصي" هي الأخطر. فالأولى جنائية وليست سياسية، وهذا يعني أن وظيفتها هي البحث فقط عن الادلة وليس توجيه الاتهامات. بينما الثانية سياسية وليست جنائية، وهذا يعني أن وظيفتها رسم ملامح الجاني واطلاق التهمة السياسية نحو هدف معين من دون تقديم الادلة الكافية أو المقنعة.

اخطأت الحكومة اللبنانية في تقديراتها إذ كان من واجبها إعطاء الضوء الأخضر لتشكيل "لجنة تحقيق دولية" وإقفال الطريق أمام إرسال "لجنة تقصي الحقائق". وما حصل أن الحكومة فعلت العكس وعاكست مصالحها ووضعت نفسها الآن في قفص الاتهام السياسي.

كان يجب على الحكومة أن تفعل العكس، أي ترفض "لجنة التقصي" السياسية وتطالب بتشكيل "لجنة التحقيق" القانونية. فالأخيرة تقنية ومهمتها تنحصر في جمع الادلة وترجيح احتمال على آخر من نوع "تفجير فوق الأرض" أو "تحت الأرض" أو سيارة مفخخة أو استخدام السلكي أو اللاسلكي وغيرها من نظريات فحص جنائية لا ترتقي إلى مستوى التهمة السياسية. فالمهمة هنا تقتصر على توصيف مسرح الجريمة وكيف حصلت ولا يحق لها أن تحدد الجهة التي ارتكبتها.

لو وافقت الحكومة على تشكيل "لجنة التحقيق" لكانت على الأقل تجنبت حتى الآن المسئولية السياسية وابقت على التحقيق في إطاره القانوني "الافتراضي" الذي يحتاج إلى براهين أخرى وربما كثيرة لاثبات التهمة. واثبات التهمة يحتاج إلى وقت وخصوصا إذا كانت الادلة غير كافية أو غير واضحة المعالم.

هذه مجرد "لو". لأن هذه الـ "لو" لو انتبهت إليها الحكومة لكانت اسعفتها داخليا وخففت عنها تلك الاتهامات وربما اعطت إشارات تطمين للشارع اللبناني وعائلة الفقيد بأنها جادة في بحثها عن الحقيقة وكشف الجاني والاجابة عن سؤال "من قتل الحريري".

إلا أن "لو" سارت في الاتجاه المعاكس فقطعت الطريق على "لجنة التحقيق" من جهة وفتحته أمام "لجنة التقصي" من جهة وبالتالي تكون الحكومة قد افترت على نفسها على أكثر من مستوى فهي زادت من الشكوك والتكهنات ضدها وافسحت المجال أمام تلك الشكوك والتكهنات السياسية لتتحول إلى تقرير اتهامي صدر عن أعلى جهة دولية ويعتبر الآن أقوى تقرير دولي وجه إلى دولة منذ تأسيس الأمم المتحدة.

اخطأت الحكومة اللبنانية في تقديراتها وأسهمت من دون وعي في المساعدة على وضع نفسها في قفص الاتهام السياسي وبقي على "لجنة التحقيق الدولي" أن تبحث عن ادلة تؤكد التهمة. وهذه كما تبدو الأمور ليست صعبة لأن المهمة الأصعب "السقف السياسي للتحقيق الجنائي" قد صدرت في تقرير دولي لاقى الترحيب من معظم العواصم

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 933 - السبت 26 مارس 2005م الموافق 15 صفر 1426هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً