العدد 2890 - الأربعاء 04 أغسطس 2010م الموافق 22 شعبان 1431هـ

بحريني في البرتغال (1)

لم تكن زيارتي الأخيرة في شهر يوليو/ تموز والخامسة للبرتغال خلال عشر سنوات حدث غير اعتيادي لولا أنها جاءت هذه المرة متزامنة تماماً مع سخونة مباريات كأس العالم وما صاحبها من بعض النجاحات البرتغالية الكروية في مطلعها والفشل أمام الجارة إسبانيا في النهاية، وظلال الأزمة المالية العالمية التي خيمت على البرتغال كما على غيرها من الدول الأوروبية وخصوصاً أن البرتغال تعتبر من الدول الفقيرة في القارة الأوروبية وربما يشبه وضعها في القارة الغنية بوضع البحرين في الخليج الثري. هذا الوضع الاقتصادي جعل بعض الصحف البرتغالية تطلع علينا أحياناً بعناوين مثل «Estado mostra as garras» أي الدولة تظهر مخالبها في معالجة الأزمة المالية في البرتغال. أو عناوين أخرى تتحدث عن تسبب حكومة الحزب الاشتراكي في وضع خطير للمجتمع البرتغالي بسبب التقشف في الميزانية والذي طال تخفيض الرواتب ووقف الزيادات السنوية وخفض ما مجموعه 20 ألف منحة دراسية توفرها الحكومة سنوياً للطلبة داخل البرتغال للدراسة في الجامعات الحكومية أو الخاصة، أضف إلى ذلك، ارتفاع اسعار ليتر البنزين إلى (700 فلس بحريني تقريباً)، وزيادة اسعار المواصلات في الحافلات الحكومية أو مترو الأنفاق كل ستة أشهر دون أن تتراجع تلك الزيادة حتى لو حدث تحسن طفيف في الاقتصاد. وقد ألقت الأزمة الاقتصادية بظلالها على المجتمع البرتغالي لدرجة أنها وحدت الخصمين السابقين وهما الحكومة والمعارضة حيث اتفق الطرفان على ترك لعبة الخلافات الديمقراطية الآن جانباً والتعاون من أجل تنفيذ سريع للإجراءات التقشفية لخفض العجز في الميزانية وإنقاذ اقتصاد البلاد.

ولا أريد أن أترك قلم التحليل الاقتصادي والسياسي يأخذنا بعيداً عن هذا التقرير الثقافي الاجتماعي للبرتغال ولا عن هدف الزيارة الخامسة والتي لم تكن في الواقع إلا ضمن سلسلة مشروع البحث عن الخليج والبحرين بالذات في الوثائق والمصادر البرتغالية والذي كنت قد بدأته مبكراً العام2001 أثناء تحضيري الرسالة الأكاديمية لنيل درجة الدكتوراه بين بريطانيا موطن الرسالة والبرتغال موطن المادة العلمية للرسالة. ولذا فلم يشغلني كأس العالم كثيراً ولا أزمة البرتغال وعدم اهتمام البعض بها وتوجس البعض الآخر من تداعياتها عليهم، عن هذا الهدف وخصوصاً أني أقمت في منطقة وسط العاصمة لشبونة تدعي «Campo Pequeno» وتعني «المعسكر الصغير» بجانب منطقة لا تبعد عنها كثيراً وهي مركز لتجمع حافلات مترو الأنفاق تدعى «المعسكر الكبير». وبجانب تلك المنطقة السياحية أقيم ملعب مصارعة الثيران الأكبر في البرتغال على شكل قصر إسلامي قديم وهذا من تداعيات الوجود الإسلامي في هذه البقعة من شبه الجزيرة الإيبيرية أو ما أطلق عليه المسلمون الفاتحون لها «بلاد الأندلس».

وبمناسبة الحديث عن التأثير الإسلامي في البرتغال والذي مازال ظاهراً بشكل واضح وجلي في العديد من الكلمات المستخدمة يومياً في اللغة واللهجات البرتغالية عموماً، مثل «السكر، الزيت، الشاي، القدر، أوشاالله وتعني إن شاء الله، العنبر، الغزال، الرز» وغيرها كثير. بل لدرجة أن بعض المدن والقرى ما زالت تحتفظ بأسمائها العربية حتى اليوم مثل (فاطمة، الغرب، القنطرة). والمدهش في تلك الأسماء اسم لمنطقة حيوية من مناطق لشبونة القديمة وتدعى «البلاد» وحرفت في لفظهم إلى البلادي. وهذه التسمية تصب في النهاية في الاسم العربي بل والبحريني تحديداً «البلاد»!! ولكن لا أظن بأن هذا سيفرح أهل البلاد كثيراً، لأن ذلك يتطلب إثباتاً تاريخياً أن بعض البلاديين قد شاركوا مع جيوش الفتح الإسلامي في البرتغال أو هاجروا إلى تلك الديار وأسسوا تلك المنطقة والتي انطبع اسمها اليوم على محطة مترو مهمة وأسواق بنفس الاسم «Alvelade Super Mercado».

لا أبوح سراً إن قلت إني شخصياً لا أحبذ زيارة البلاد الأوروبية صيفاً لأسباب عديدة أهمها مظاهر التفسخ الأخلاقي التي لا يحدها شيء في ذاك الموسم، وخصوصاً أن البرتغال تحاول جاهدة أن تكون نسخة حقيقية من أي بلد أوروبي في هذا السلوك حتى لا يقال عنها إنها متخلفة أو بها بقايا الروح الإسلامية أو بعض الحشمة للمرأة بالذات. مع أن أقل جالية إسلامية متواجدة في أوروبا هي في البرتغال، حيث لا يتعدى المسلمون العشرين ألف نسمة ومعظمهم من إفريقيا وموزمبيق بالذات ومن الهند وشرق آسيا، والقلة من عرب شمال إفريقيا. وبالطبع ليس بين أولئك العرب الأفارقة ثري يذكر بالاسم لأن هؤلاء العرب معظمهم خرج لظروف سياسية أو طلباً للرزق في ظل حرية أكبر من التي في بلادهم لدرجة أن البعض منهم سعي للحصول على الجنسية البرتغالية ليس بسبب غنى البرتغال طبعاً ولكن لأن الجنسية هنا تفتح لهم المجال واسعاً للتنقل في أوروبا بحرية والعمل بها دون خوف من ملاحقة قوانين إرهاب وما شابه. أضف إلى ذلك أن تلك الجنسية التي تمنح عادة في البرتغال بعد خمس سنوات فقط ولكن مع إثبات رسمي بإقامة متواصلة بشكل دائم في الدولة، تجعل أي عربي عزيزاً ومرحباً به ومحافظاً على حياته في بلده العربي الأصل خوفاً من أهمية تلك الجنسية ومواطنيها، وهذه من سخريات السياسة والقدر في عالمنا العربي.

وللعلم فإن البرتغال بلد سياحي حقيقي ولكن للأوروبيين والأميركيين أكثر من غيرهم، ولم أجد خلال تجولي في معظم مدن البرتغال بحثاً عن التاريخ والوثائق وأماكن تواجد المسلمين بها منذ الفتح الإسلامي لها، أي حضور عربي لافت إن لم يكن معدوماً بالمرة وخصوصاً من قبل السياح الخليجيين بين السياح الأجانب وبشكل خاص في أفضل موقع سياحي ساحلي وهو (Torre de Belém) لم تطله أبداً مشاريع دفن البحر كما يحدث لدينا بدون حسيب ولا رقيب لأن هناك الديمقراطية ومحاسبة المسئولين تطبق بروح أوروبية وليس بروح عربية. ثم إن هذا الموقع يمثل ذاكرة الزمن بالنسبة للبرتغاليين حيث منه انطلقت رحلات الكشوف الجغرافية في القرن الخامس عشر للميلاد وأهمها رحلة المدعو (فاسكو دي غاما) وهو خير من يحافظ على تاريخه الحقيقي بالنسبة لهم. وسبب عدم تواجد السياح الخليجيين في تلك المناطق لا يكمن فقط في جهل الخليجيين بالمناطق السياحية في هذه الدولة بل لسوء تواصل الحكومات البرتغالية مع العالم العربي الذي تتحسس منه كثيراً بسبب الإرث التاريخي المعروف بين الجانبين والذي لم تستطع البرتغال حتى اللحظة التخلص منه تماماً. ولذا فهي لم تبدأ بعد أي مشروع سياحي مباشر مع أي دولة خليجية. ومن هنا لا نجد للسفارات العربية والخليجية بالذات وجوداً عددياً ملحوظاً في البرتغال. وأقدم السفارات الخليجية في لشبونة هي السعودية، ومؤخراً تزامن وجودي في العاصمة البرتغالية مع خطوات افتتاح سفارة دولة الإمارات العربية المتحدة وهي خطوة في الطرق الصحيح؛ لأن البرتغال هي البلد الوحيد من القارة الأوروبية الذي بدأ مشروعه الاستعماري الحديث في مطلع القرن السادس عشر للميلاد للسيطرة على مقدرات العالم الإسلامي وطرقه التجارية وتجارة التوابل والبهارات تحديداً. ومن هنا كان البرتغاليون أول من وصل للخليج وفرض سيطرته عليه منذ العام 1507 على يد القائد البرتغالي المدعو (Afonso de Albuquerque). ولذا فتاريخياً نحن مرتبطون بالبرتغال أكثر من بريطانيا، ولكن لعدم معرفة الخليجيين باللغة البرتغالية لا قراءة ولا ترجمة فقد كتب معظم تاريخنا وكأنه مرتبط بالحقبة الإنجليزية فقط.

وذات يوم وبينما كنت أمر في حديقة كبيرة تفصل أرشيف البرتغال التاريخي الرئيس في لشبونة المسمي: «Arquivo Nacional da Torre de Tombo» أو «برج الزمن»، لفت نظري أن كل الذين يعملون في رعاية تلك الحديقة من قيادة السيارات إلى تقليم الأعشاب والحشائش والاهتمام بالزهور وري الأرض هم من النساء والصغيرات في السن أيضاً، استغربت لهذا الأمر، فسألت وجاء الجواب غريباً أيضاً..

في الحلقة القادمة..

العدد 2890 - الأربعاء 04 أغسطس 2010م الموافق 22 شعبان 1431هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً