العدد 953 - الجمعة 15 أبريل 2005م الموافق 06 ربيع الاول 1426هـ

درس العراق القديم والجديد

محمد صادق الحسيني comments [at] alwasatnews.com

"إذا لم ينتبه ملك إلى الحق فسيقع شعبه في الفوضى، وسيجتاح بلده، إذا لم ينتبه ملك إلى حق بلده فإن "أيا" ملك المصائر الإلهي سيغير مصيره الخاص، وسيدفعه دوما على طريق التعاسة، إذا لم ينتبه إلى حكمه فستكون أيامه قصيرة، إذا لم ينتبه إلى مستشاره فستثور بلاده عليه، إذا أصغى إلى نذل فستتغير ذهنية بلاده، إذا انتبه إلى رسالة "أيا" فإن الآلهة العظام سيقودونه دوما في المشورة وسبل الإنصاف، إذا عامل بظلم مواطنا لـ "سبار" في حين أنه يجري العدل للغريب فإن شمس حاكم السماء والأرض سيضع في البلاد شريعة غريبة، بحيث إن الحكيم والحكام لن يبالوا بالعدالة من بعد، إذا أحيل سكان تيبور للحكيم أمامه وعاملهم بتعسف لكونه قد تقبل رشوة فإن "انليل" سيد البلاد، سيثير ضده عدوا غريبا فيبطش بجيشه، ويجعل من نبلائه وضباطه مثل جوالين في الطرقات على غير هدى، إذا اختص لذاته بمال مواطني بابل وضمه إلى خزينته الخاصة، وإذا علم ما هي الشريعة للبابليين وحولها إلى بطلان فإن "مردوخ" سيد السموات والأرض سيجعل خصمه يعلو عليه، وسيجعل من أمواله وثروته هدية لأعدائه، إذا كان في سبيل إنزال عقوبة بمواطني نيبور وسبار وبابل يلقيهم في السجن فإن المدينة التي فيها ينزل الحكم تقوض على أسسها".

على رغم أن النص المذكور أعلاه كتب لحدث ما على الأرجح في عهد الملك سنحاريب "681 - 704 ق. م"، ولكن فيه من البلاغة والحكمة والدلالة البالغة الأهمية في المبنى والمعنى ليجعله صالحا لأن يعتبر منه الحاكم في بلاد الرافدين كما في أي قطر عربي أو إسلامي من بلاد الشرق المبتلاة اليوم بابتلاءات تشبه ابتلاءات عهد الملك سنحاريب إذا لم تكن أكثر حرجا وأبلغ إيلاما.

في بلادنا العربية والإسلامية من طنجة إلى جاكرتا - إذ تسمى مرة بقوس الأزمة وبالهلال الإسلامي مرة ثانية وبالشرق الأوسط الكبير أو الموسع حديثا كما يحلو لخاطفي القرار الدولي من جماعة المحافظين الجدد - ثمة ضباب كثيف والمشهد مضطرب للغاية على رغم فسحة الأمل التي ترى في آخر النفق.

ثمة أزمة متفاقمة، ثمة حيص بيص، ثمة تداخل كثيف ومتشابك في المعايير والمقاييس والمفاهيم والتعاريف تدور أكثرها أو كلها تقريبا بشأن العلاقة بين الحاكم والمحكوم أو بين المسئول والمواطن والسبل الكفيلة لإجراء المصالحة التاريخية بينهما على قاعدة من العدل والإنصاف بعد طول جفاء وبعد وقطيعة.

إن تجربة الحكم العراقي في العهد البائد مع مواطنيه وما آلت إليه مصائر ذلك الحاكم وذلك البلد وذلك المواطن عبرة لمن يريد أن يعتبر ودرسا بليغا لأي قارئ حصيف للتاريخ البعيد والحديث، في بلداننا العربية والإسلامية اليوم ثمة أمواج متلاطمة من التحولات على أكثر من مستوى وأكثر من صعيد. ومن لا توقظه الأمواج ولا يريد أن يراها أو يسمع بها ما عليه إلا أن يتوقع يقظة متأخرة كالصاعقة المتولدة بفعل الطوفان.

لذلك، ومن أجل منع تكرار تجربة عراق العهد البائد التي يمكن لها أن تتكرر بأشكال مختلفة ومتنوعة في أي بلد كان وليس بالضرورة نسخة طبق الأصل عن العراق، لابد لمن يهمه الأمر أن يتعلم فضيلة الاستماع قبل فوات الأوان، لابد له أن يفتح أذنه جيدا ويعود نفسه على النقد الصريح والصادق والحميم من أبناء بلده قبل أن ينزل فيه حكم "أيا" "ملك المصائر الإلهي".

بالمقابل ثمة من يترصد "الأمواج" في بلادنا ليجهز على الطريدة من خلال تحريك كل الغرائز التي يمكن أن تخطر على البال في خضم الأجواء الملتبسة، فيحرض المحكوم على الحاكم وبالعكس ليس من أجل إحداث التغير المنشود أو الإصلاح المطلوب بل من أجل إحداث الطوفان المطلوب وبذريعة محاربة الطغيان ونشر الحرية والديمقراطية والآتية جاهزة دوما "فرق تسد".

وحده الحاكم الذي يستمع إلى شعبه جيدا ويسعى جاهدا لخلق أجواء التفافية وتوافقية ووفاقية بين مكونات المجتمع الواحد، سيكون بمقدوره أن ينجو من السقوط الذريع في وادي الانهيار السريع.

ووحده المواطن الذي يصغي إلى حكمة التاريخ ويتعلم من تجارب الغير المرة قبل الحلوة، سيكون بمقدوره وقف مسلسل الانهيار السريع للوطن والتدهور العميق في أجواء الوحدة الداخلية الوطنية.

من العراق السومري القديم إلى عراق العهد البائد الحديث إلى كل الأقطار العربية والإسلامية التي تتعرض للامتحان تلو الامتحان اليوم، يلحظ المترقب بوضوح ثمة ارتباط عميق بين الانتفاضة على الظلم وطلب العدالة من جهة وبين التوق الشديد والشوق اللامحدود للحرية بكل تفاصيلها.

وحده الحاكم المتحرر من حب الجاه الشديد ومن طمع الاستحواذ على ممتلكات العامة والخواص وحرصه على تقديم أبناء جلدته في دور المستشارين على الأجنبي الداخل على خط الإصلاح والتغيير لغاية في نفس يعقوب "وأولاد يعقوب" المتآمرين على يوسف، هو القادر على حفظ ملكه وسلطانه متصالحا مع عامه الناس والقادر على أن يربح معركة العدالة والحرية معا حتى لو عاداه العالم بأكمله مادام أهل الدار يقفون معه "صفا كأنهم بنيان مرصوص".

* رئيس منتدى الحوار العربي الايراني

إقرأ أيضا لـ "محمد صادق الحسيني"

العدد 953 - الجمعة 15 أبريل 2005م الموافق 06 ربيع الاول 1426هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً