العدد 959 - الخميس 21 أبريل 2005م الموافق 12 ربيع الاول 1426هـ

المعرفة تخترق حاجز النظر

المعري. .. الفلسفة شعرا "3"

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

كان المعري في الثالثة من عمره حين أصيب بمرض الجدري. هذا المرض قلب حياته وأحدث فجوة بينه وبين العالم الخارجي. فبسبب المرض فقد بصره ونشأ ضريرا لا يعرف من الألوان إلا الأحمر. لماذا اللون الأحمر؟ المعري لا يجيب ولا يذكر السبب. إلا أن شعره ونظرته السلبية عن الحياة والعالم ونفوره من الناس كلها علامات تشير إلى ذلك التوتر الداخلي وقلقه الدائم ورؤيته المعاكسة لما هو موجود وقائم.

ربما يكون اللون لعب دوره في رسم شخصيته المضطربة، هذا احتمال. والاحتمال الآخر، أن الظلمة أسهمت في إقفال أبواب العالم أمام نمو طفل بدأ يبحث عن مستقبله في عتمة أغلقت الطرقات وقللت من كثرة الخيارات. فبعد الدخول في الظلام لم تعد الاحتمالات متنوعة ولم يبق من سبيل غير العلم خيارا مفتوحا أمام عقل الطفل الضرير، وهذا ما كان.

بين العام 367 هـ "977م" و370 هـ "980م" درس العلم والأدب على يد والده. فالأب في هذه المرحلة الدقيقة لعب دوره الخاص في حماية الطفل وتدريبه على التعامل مع مشاغل الدنيا والحاجات اليومية. كذلك لعب الأب دور المعلم الذي يشرف على تربية طفله الضرير المقبل على حياة صعبة وليس سهلا عليه التعاطي مع تعقيداتها.

اكتشف الأب ذكاء الابن واعتبر أن عقله يعوض ما فقده الطفل من حق إنساني في مشاهدة صور العالم، فقرر الاعتناء بتربيته وتوفير ما يلزم من إمكانات أدبية وعلمية تسعفه على تدبير أموره حين يستقل بأمره. وبسبب حاجة المعري إلى تعويض ما فقده وإحساس الأب بعقدة ذنب أو مسئولية غير مباشرة عما أصاب طفله، قرر إرساله إلى جماعة من علماء المعرة للعناية به وتدريسه وتربيته. وفي المعرة ظهرت عبقرية الطفل الضرير وبدأ يرى العالم من وراء الظلمة.

قعد المعري يدرس في المعرة مدة أربع سنوات امتدت إلى العام 375 هـ "985م" بعد ذلك قرر والده إرساله إلى حلب لاستكمال علومه. حلب آنذاك كانت مدينة مزدهرة تعيش أفضل حالاتها على رغم تراجع مكانتها السياسية بعد رحيل مؤسسها سيف الدولة. فالمؤسس ذهب إلا أن دولته الحمدانية استمرت تصارع من حولها دفاعا عن موقعها وما تمثله المدينة من مكان زاهر أسهم في جذب الكثير من العلماء والأدباء والشعراء إحساسا منهم بأنها ملجأ يضمن حياة من يريدها ويطلبها.

آنذاك كانت حلب تعاني من مشكلات مع محيطها السياسي. فهي من جانب تتعرض لضغوط عسكرية من جهة الشمال البيزنطي، ومن جانب تتعرض لضغوط سياسية من جهة الجنوب الفاطمي. وبين الضغطين صمدت الدولة الحمدانية في محاولة منها للحفاظ على موقعها ودورها. وفي مثل هذه الأجواء جاء المعري إلى المدينة لتلقي ما يحتاج إليه من علوم. ولاشك في أن علوم حلب تختلف عن تلك التي حصل عليها في المعرة. فالمدينة محطة تجارية ونقطة اتصال تستريح فيها قوافل التجار الآتية من الشرق وبغداد أو القادمة من الغرب ذهابا إلى الهند والصين. وبسب تلك المكانة الجغرافية - الاستراتيجية تميزت المدينة بالانفتاح وتداخل الثقافات وما تنقله القوافل معها من بضاعة فكرية إلى جانب السلع التجارية.

كانت حلب جامعة ثقافية تختزن الكثير من العلوم المنقولة والاجتهادات الفلسفية التي اشتغل عليها الفارابي سابقا، وما ضمته مكتباتها من كتب ترجمت إلى العربية من لغات الهند وفارس وبيزنطيا واليونان. وفي إطار هذه المدينة "الجامعة الثقافية ومحطة القوافل التجارية" تعرف المعري على منظومات فكرية لم تدركها تلك البلدة التي ولد فيها.

في حلب بدأ المعري رحلته نحو الفلسفة وما يتفرع عنها من علوم. فآنذاك كانت رسائل اخوان الصفا ظهرت مجتمعة للمرة الأولى في العام 373 هـ "983م". واخوان الصفا كانت أشبه بحركة ايديولوجية نشأت في بداياتها الأولى في البصرة ثم انتشرت حلقاتها في بغداد. ولا بد أن حلب عرفت بعض حلقاتها حين ذهب إليها المعري.

استفاد المعري كثيرا من فترة وجوده في حلب ويرجح أن تكون صلاته الأولى مع الاتجاهات الفلسفية التي كانت تعصف بالمدينة بدأت من هناك واستمرت معه تدفعه نحو المزيد منها. وبقي المعري على حاله يغرف من علوم المدينة وبعيدا عن متاع الدنيا. فالحاجز بينه وبينها كان قويا وهذا ما انعكس سلبا على شخصيته حين شب وشاب.

وفي هذه الأجواء قرر المعري مغادرة حلب والذهاب إلى انطاكيا لدراسة الفلسفة من منابعها والاطلاع على الفقه المسيحي والتعاليم المسيحية.

قرار المعري فيه بعض الغرابة. فأنطاكيا آنذاك كانت تحت حكم البيزنطيين حين نجح الروم في دخول المدينة في العام 359 هـ "969م" ودمروا معالمها الإسلامية، وهو أمر أثار غضب الكثير من أمراء المدن الإسلامية وأحدث نعرات طائفية في الكثير من المناطق وصلت إلى حد حصول فتن أهلية بين المسلمين والمسيحيين.

إلا أن هذا القرار الغريب له ما يبرره. ففي ذاك الوقت حصل ما يشبه اتفاق التصالح بين الفاطميين والبيزنطيين في العام 377 هـ "987م". ويرجح أن يكون اتفاق الصلح شجع المعري على اتخاذ تلك الخطوة في ذاك الظرف والتوجه إلى أنطاكيا لتعلم اللاهوت المسيحي والاطلاع على تعاليم المسيحية.

وخلال وجوده في المدينة حصلت فتنة بين المسلمين والمسيحيين في اللاذقية التي تقع على مقربة من أنطاكيا. فقرر المغادرة ربما خوفا وربما حرصا منه على معرفة حقيقة تلك الخلافات التي تقع أحيانا بين أتباع الديانتين.

وفي اللاذقية تابع المعري دراسته للفقه "اللاهوت" المسيحي وتحدث شعرا عن المشكلات الطائفية وسخر من تلك الصراعات وتهكم عليها فانتقد الفتن الأهلية بين الأديان ودعا إلى التفاهم لأن جوهر المعتقدات يقوم على أصول واحدة ومشتركة.

فكرة التقريب بين الأديان وتوحيد المذاهب التي قال بها المعري باكرا ليست بعيدة عن بدء تأثره بمناخات رسائل إخوان الصفا التي تقول بالأفكار نفسها ولا تبتعد عن تلك الأجواء الفاطمية التي دعت أيضا إلى توحيد المذاهب والديانات. فالمعري آنذاك على رغم صغر سنه والظلمة التي تحيط به كان من أقرب الناس إلى تفهم الأجواء التي تعرف إليها خلال وجوده في حلب وأنطاكيا واللاذقية.

لم تنته رحلة المعري العلمية في اللازقية. فهناك سمع بمكتبة طرابلس الضخمة وما تحويه من كتب غير متوافرة في الكثير من المكتبات، فقرر الرحيل إلى طرابلس الشام والتعرف على ما فاته من علوم.

وفي تلك المدينة درس المعري الفقه الإسلامي على علماء طرابلس واطلع على ما تختزنه تلك المكتبة من علوم ومعارف وعاش فيها إلى العام 383 هـ "993م" ولم يغادرها إلا حين ورده خبر مرض والده فقرر العودة إلى المعرة.

بلغ المعري الآن العشرين من عمره، حصل خلالها على الكثير من العلوم وتعرف في تلك السنوات على أهم مدن بلاد الشام واتصل وتواصل مع مختلف مدارسها ونال منها المعارف على أنواعها وتضاربها. وحين وصل المعرة توفي والده وحزن عليه كثيرا. فالمعري الشاب يدين بالكثير للأب الذي وفر له كل ما يريده طلبا للعلم وتعويضا لفقدانه النظر وهو في سن الطفولة.

ترك رحيل الأب أثره السلبي على المعري. فهو الآن خسر المربي وخسر مورد الرزق الذي اعتمد عليه للدراسة وتحصيل العلوم والترحال من مدينة إلى أخرى. ومنذ الآن أخذ المعري يعتمد على نفسه. فعاش فترة على مال الوقف لإعالة أمه، كذلك بدأ يثقف نفسه ويدرس على كيفه.

بين العام 375 هـ ووفاة الأب في العام 384 هـ "994م" عشر سنوات من التحصيل العلمي أكسبت المعري مناعة ضد ما فقده في طفولته وأعطته ما يكفي من معارف يتسلح بها لمقارعة خصومه وإثبات مكانته وانتزاع موقع كان من الصعب على شخص مثله أن ينتزعه بسهولة ومن دون معارك وتشنجات وخلافات. فمنذ أن بلغ المعري سن العشرين من عمره اكتسب شخصية خلافية اتسمت بالسلبية والجرأة على النقد والتهكم على خصومه والرد على مخالفيه. فالمعرفة ساعدته في اختراق حاجز النظر، ولكنها لم تسعفه على الانخراط في المجتمع.

بعد رحيل الأب، أعاد المعري تأسيس شخصيته مستفيدا من تفوقه العلمي للتعويض عن ذاك النقص الذي أصابه في طفولته. وبسبب طبيعته تلك المصحوبة بحدة الذكاء والذاكرة القوية اكتسب الشاب الضرير قوة المعرفة. ومن خلال تحصيل المعرفة صاغ سلاحه الفكري/ الشعري لنقد المجتمع والناس وكل ما يلمسه ولا يراه. فالرؤية انتقلت من النظر إلى العقل، وتحول العقل عنده إلى ما يشبه الإمام الذي يقتفى أثره في ضوء نور معارفه.

وتحت وطأة الاستبدال الضمني بين ظلمة النظر ونور العقل نشأت رؤية فلسفية/ شعرية صنعت تلك الشخصية الخلافية التي لا تحيا من دون مشاكسة أو مخالفة للسائد والمألوف في عصره. وهذا ما جلب له الكثير من الخصوم وزاد من عزلته عن الدنيا والناس.

إنها مأساة طفل خسر بصره وهو في الثالثة، وخسر والده وهو في العشرين، واكتسب علوم دنياه من دون أن يتعرف على دنيا الناس. فعلاقة المعري كانت مختصرة مع الحياة، فاقتصرت على الكتاب ولم تتطور صلته بها، فبقيت مختزلة في الأفكار ولم تنجح في الانتقال إلى الاجتماع، وما تمثله ظروف البشر من تناقضات ومنازعات

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 959 - الخميس 21 أبريل 2005م الموافق 12 ربيع الاول 1426هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً