العدد 963 - الإثنين 25 أبريل 2005م الموافق 16 ربيع الاول 1426هـ

قلعة البحرين... في أحضان "اليونسكو"

قاسم حسين Kassim.Hussain [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

كان لي موعد يوم السبت الماضي مع التاريخ في قلعة البحرين، في ثالث زيارة لها في حياتي. الزيارة الأولى كانت قبل ثلاثين عاما، لم يبق منها غير ذكرى حافلة كبيرة تقل أكثر من خمسين طفلا من تلاميذ مدرسة الخميس الابتدائية، جاءوا في جولة حول قلعة "البرتغال"، ثم أخذوا يتناولون زجاجات المشروبات الغازية.

الزيارة الثانية كانت قبل ثلاثة أعوام، وكنت خارجا من المسجد فجر أحد أيام رمضان المبارك، فلقيني شاب من الجيران ودعاني إلى جولة بالسيارة فيما نناقش قضايا هنا وهناك. ووصلنا إلى قلعة البحرين والشمس قد بدأت تلون الأفق الشرقي بأشعتها الذهبية الجميلة. كان واقع القلعة أقرب للخرائب وأكوام الأتربة، ونزلت مع صاحبي نجول بين الأطلال والجدران المطمورة بالتراب. وخرجنا من القلعة والألم يعتصر القلب، وخصوصا حين تقارن بلدك ببلاد أخرى قريبة، فترى اهتمامهم بالآثار وترى إهمال بلدك لتاريخه. وتقارن هذه الخرائب بالآثار الشامخة في سورية ولبنان وتركيا والعراق وإيران و... وغيرها من الدول القريبة والبعيدة.

أما يوم السبت الماضي فكان لي لقاء شاعري حميم مع القلعة التي تم تجديدها أخيرا. دخلت القلعة من ناحية الشرق، حيث انتصبت بوابة جديدة جميلة، ووضع سياج حديد يحيط بالمنطقة، وأقيم شارع مرصوف بالطوب الأحمر يتسع لسيارة واحدة فقط.

في الداخل نزلت إلى الرواق، فانتابتني رعدة من الأعماق، وسمعني مرافقي المصور محمد المخرق أتأوه وأصعد الزفرات من داخل صدري. في حلم أم في علم؟ هل نحن في البحرين حقا، وهذه قلعة البحرين التي كانت خرائب قبل ثلاثة أعوام؟ أحسست بأنني أسير في الهواء، وأمشي في عالم آخر من الأساطير. قلعة خرجت برأسها من بين الركام والإهمال، بعد أن كادت تجرفها الجرافات، وأوشكت المطامع الضيقة على استملاك الأراضي من حولها وتوزيعها قسائم على المتنفذين. ولعلها من المرات القلائل التي أشعر فيها بالفخر للانتماء إلى وطني الذي بدأ يحترم ذاته ويتلمس طريق التعامل الانساني مع ناسه وآثاره وجزء يسير من تاريخه. ولأول مرة أشعر بنوع من الاعتزاز والفخر لهذا الوطن الذي يمتلك كل هذا الغنى والتنوع والعمق التاريخي العريض. فأنت داخل قلعة تختزل تاريخ البلد كله، من أيام الحضارة الدلمونية الأولى قبل 4500 سنة. وهذه القلعة الشامخة تضع هذه الجزر المتناثرة وسط الخليج، في مصاف الدول العريقة التي قامت فيها الحضارات الكبرى، في أرض الرافدين وأرض النيل ومنطقة الهلال الخصيب. بل إن بعض علماء الآثار يعتبرونها الحلقة المفقودة في تاريخ المنطقة، والتي تصل ما بين حضارتي وادي النيل والرافدين. وهو تاريخ يدلك على استمرارية هذا الشعب وتواصله عبر حقب التاريخ الممتدة.

على أن هذه القلعة لو تركت للأهواء المستبدة والمصالح الضيقة لضاعت وانتهت إلى قسائم سكنية يتداولها السماسرة وتدخل سوق المضاربات العقارية. والوجه الآخر لهذه المفارقة المحزنة تصريح رئيس جمعية تاريخ وآثار البحرين عيسى أمين: "لولا البعثات الأجنبية لما عرفنا حضارة دلمون، ولا أصبح للبحرين مركز مميز في تاريخ الانسانية". وما ستشهده القلعة غدا الأربعاء من احتفالية كبيرة تستدعي الاعتراف بالفضل لعلماء الآثار الأجانب الذين بدأوا التنقيب عن جذور هذه الحضارة، منذ العام ،1953 في ظروف صعبة، على ساحل البحر في بحرين الخمسينات، ليضعوها تحت أبصارنا مجلوة كالعروس.

قلعة البحرين انتهت مأساتها بإعلان عرسها غدا، وتظل هناك عين أم السجور، ويظل هناك معبد باربار، وتظل مستوطنة سار، وعين أم عليوه، ومقابر عالي التي قضمتها القوارض والتماسيح، ويظل هناك خليج توبلي الذي استولت عليه المصالح الضيقة فدمرت بيئة بحرية من أجمل ما تكون.

قلعة البحرين إذا تم تسجيلها لدى اليونسكو ودخلت ضمن التراث التاريخي للبشرية، فإنها ستكون جولة واحدة فاز بها تاريخ البلد، وانتصر فيها شعب البحرين، وبقيت جولات طويلة، ومواقع كثيرة تتطلب من يشمر عن ساعديه ليخوض تلك الحروب مع التماسيح التي لا تشبع

إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"

العدد 963 - الإثنين 25 أبريل 2005م الموافق 16 ربيع الاول 1426هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً