العدد 2901 - الأحد 15 أغسطس 2010م الموافق 05 رمضان 1431هـ

رحيل رجلٍ آخر من جيل الشتات

قاسم حسين Kassim.Hussain [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

الأخبار الحزينة تأتي فجأةً، فبينما يستقبل الناس شهر رمضان مساء الثلثاء، تستقبل خبراً عن رحيل أحد رجالات العائلة بشكلٍ مفاجئ وغير متوقع... ومتى جاء الموت على موعدٍ مسبق؟

كان يجلس قبل ثلاثة أيام من رمضان مع عائلته، فصعد إلى السطح ليصلح خزّان الماء، وفي أثناء ذلك سقط على رأسه فتعرّض إلى كسرٍ بالجمجمة ليدخل في غيبوبة ويسلم الروح بعد ثلاثة أيام عن سبعين عاماً. قضاء الله ولا رادّ لقضائه.

عند الدفن ضُحى يوم الأربعاء، كان الجو حاراً وخانقاً، وتعرّض ثلاثةٌ من المشيّعين إلى ضربة شمس، من بين تلك المجموعة الصغيرة التي تعد بالعشرات، فالرجل ليس من الوجهاء أو أصحاب الأموال، وإنّما من الكَسَبَةِ الكادحين، الذين كرّسوا حياتهم لرعاية أسرةٍ كبيرة.

وُلد وترعرع في الشتات، ربما يكون جدّه أو جد أبيه هو الذي نزح بالعائلة من محيط المنامة في زمن الاضطرابات قبل أكثر من مئة وخمسين عاماً. ظلت الأسرة محتفظةً بلسانها العربي ولهجتها المحلية، لم تتسرّب إليها أية لكنةٍ أجنبية. وفي مطلع الخمسينيات التي يُكثرون الحديث عنها وإثارة الغبار والتلفيقات حولها، عاد مع العائدين، فالطيور المهاجرة تعود دائماً إلى أوطانها، كما قال عمر الخيام:

إن تُفصَلِ القطرةُ من بحرها... ففي مداه منتهى أمرها

عندما عاد إلى الوطن الذي كانت تحدّثه عنه جدّته، انغمس في حياة كلها كفاحٌ من أجل لقمة العيش الشريف، مسلحاً بتقاليد العائلة، التي حافظت على صناعة السفن ومهارة القلاليف، فعمل نجّاراً ماهراً. وعندما تراجعت حرفة النجارة أمام زحف المفروشات الأجنبية المستوردة في السبعينيات، انتقل إلى أعمال أخرى.

كان صديق طفولةٍ لوالدي، وكنت صديق ابنه في الكلية نهاية السبعينيات، وحين كنت أتكلّم معه عن ذكرياته وأيامه الأخيرة، اكتشفت أن ذلك الجيل الكادح تجمعه خصالٌ نفتقدها، في مقدمتها قيم الرحمة والعطف على الضعفاء والفقراء. فأبوه كان عطوفاً على العمال الأجانب الذين يعملون معه، فهم ليسوا سخرةً ولا عبيداً، وإنّما عمالٌ مستأجَرون، لهم أجسادٌ يؤذيها الحر كما يؤذي أجسادنا، ويتعرضون لضربات شمس في مصاهر العمل. واحتجنا إلى ثلاثين عاماً من التنمية التي قامت أكثر مشاريعها على أكتاف هذه العمالة الرخيصة، لكي نقتنع كرهاً بضرورة تخفيض ساعات العمل في شهر الصيف، فرضاً بقوة القانون.

تذكّرت ما كان يرويه والدي الذي رحل في مثل هذه الليلة أيضاً قبل ستة أعوام، حين كانت أمه تعطيه حبتي تمر يومياً، في فترةٍ تعود إلى سنوات الحرب العالمية الثانية. وحين يأتيهم فقيرٌ جائعٌ تؤثِره بنصيب أبي أو عمتي من التمر. أخلاقٌ تبدو غريبةً وربما مستهجنةً في هذا الزمان. أخلاقٌ أصيلةٌ، ونفوسٌ رقّقتها الغربة والحنين للوطن لدى جيل الشتات.

حين عادت الطيور إلى أوكارها، توزّعت السكن بين قراها الأولى التي غادرها الأجداد، فمنهم من عاد إلى المنامة أو سماهيج أو السنابس أو الغربية، وعادت عائلتي إلى البلاد القديم. وكان يجمعهم اللقاء شبه اليومي في سوق المنامة، وكان لقاؤهم الأكبر في شهر محرم من كل عام، حيث يجتمعون في مأتم المديفع. وبعد أن ينتهي الخطيب الراحل الملا عطية الجمري من مجلسه يوم العاشر وينتهي طواف مواكب العزاء بأزقة المنامة، تستضيف عائلة المديفع الجماعة رجالاً وأطفالاً في منزلها لتناول الغداء.

ليلة الرحيل، شاهدت عمتي أخاها في عالم الرؤيا، وقد جاء متوكئاً على رجُلين، سألته: ماذا جاء بك؟ فقال: «جئت لأصطحب شخصاً عزيزاً عليّ». أرعبتها الرؤيا، ولكنها في الصباح فهمت تأويلها حين سمعت بوفاة الرجل الكادح يوسف العسماوي... جارهم وصديق طفولتهم القديم.

إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"

العدد 2901 - الأحد 15 أغسطس 2010م الموافق 05 رمضان 1431هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 11 | 11:23 ص

      حكاية من تاريخ شعب

      رحم الله والديك يا سيد ورحم المتوفى بواسع رحمته، ستبقى هذه إحدى الحكايات من تاريخ شعب طيب ونبيل.

    • زائر 10 | 4:41 ص

      الله يرحمك ياحجي يوسف

      الله يرحمك ياحجي يوسف

    • زائر 9 | 4:37 ص

      اين اصحاب الغبار؟

      وفي مطلع الخمسينيات التي يُكثرون الحديث عنها وإثارة الغبار والتلفيقات حولها، عاد مع العائدين، فالطيور المهاجرة تعود دائماً إلى أوطانها، أخاف يطلعون يقولون مجنسين بينما يوزعون الجنسية مجاناً على من هب ودب.

    • زائر 8 | 4:20 ص

      أتقى الناس أكثرهم غربة

      الله يرحمه ويرحم المؤمنين والمؤمنات جميعا

    • زائر 7 | 4:08 ص

      ابن المصلى

      سلمت يا سيد تتكلم عن شعب البحرين هذا والله معدنهم الأصلي ابا عن جد لايحقدون على احد وحتى من اساء لهم في يوم من الأيام يتشرفون به ويحاولون طي ونسيان صفحة الماضي بكل قساوتها شعب اصيل يحب التعايش مع الجميع على اساس العدالة ولايرضى بالظلم ولايرضى بالذل والهوان هذا ديدن الشعوب الكريمة رحم الله الماضين منهم وحفظ الله الباقين وحفظ الله هذا الوطن الغالي من اي مكروه رحم الله هذا الرجل رحمة واسعة واسكنه الفسيح من جنانه انه سميع مجيب ياأيتها النفس المطمئنة ارجعي الى ربك راضية مرضيةفدخلي في عبادي ودخلي جنتي

    • زائر 6 | 3:29 ص

      الله يرحمه

      عاشوا الغربة كما عاشها أبو ذر رضوان الله تعالى عليه

    • زائر 5 | 2:35 ص

      ALBEEM

      I GIVE MY CONDOLENCE FOR HIS FAMILY

    • زائر 4 | 2:22 ص

      أحزنتنا على قيمنا وعلى أصحابها القدامى

      إنا لله وإنا اليه راجعون
      رحمة الله عليه وحشره مع محمد وآل محمد صلوات الله وسلامه عليهم اجمعين
      كانت أخلاق محمد وآل محمد يعيشها الناس في البحرين.. بطيبتهم.. وحبهم .. وتعاونهم وعطفهم
      كانت هذه بلادي

    • فاطمة سبت | 2:05 ص

      قشعريرة

      صادتني قشعريرة لما قريت عن الرجل اللي جاها في عالم الرؤيا

    • زائر 2 | 12:15 ص

      إلى رحمة الله

      وفد على أكرم الأكرمين ولا أظنه إلا أحد الضيوف على محمد وآل محمد في هذا الشهر الفضيل .. حشره الله في زمرة محمد ص وآله الطاهرين ورزقه شفاعتهم وملأ قبره نوراً وضياءً آآآآآمين يار العالمين

    • bany hasim | 10:58 م

      الله يرحم شيعة امير الموئمنين

      الى جنان الخلد , لا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم , انا لله وانا اليه راجعون , الفاتحة

    • زائر 1 | 10:34 م

      الله يرحمه

      هالاشكال اساس البركة في حياتنا وموتهم ثلمة في القيم التي بدات تنقرض . تسلم وحتى خواطرك تنقرأ بفائدة قاسم

اقرأ ايضاً