العدد 1007 - الأربعاء 08 يونيو 2005م الموافق 01 جمادى الأولى 1426هـ

قلق جنبلاط

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

في حوار بثته محطة فضائية أجاب وليد جنبلاط عن سؤال: "لماذا تغير مواقفك دائما؟" بنفي التهمة وعدم إنكارها. جنبلاط نفى التهمة بالقول إن سياسته تعتمد على ثوابت مطلقة لا تتغير، وفي الآن لم ينكر التهمة حين قال "إنه ليس لوحا"؛ فاللوح يتصف بالجمود الفكري وعدم رؤية المستجدات ولا يقرأ المتغيرات.

وبين نفي التهمة وعدم إنكارها يمكن فهم "ثنائية" جنبلاط وتفسير قلقه الدائم ومحاولاته للإحاطة بالمتغيرات من دون التخلي عن الثوابت. فالثنائية هي مصدر التوتر وهي صانعة لتلك الشخصية القلقة التي تنظر مرة إلى الوراء ومرة إلى الأمام. وبين واقع يشده إلى الخلف، وطموح يدفعه إلى التقدم تستقر تلك الشخصية المتقلبة بين هذا وذاك.

"الثنائية" مسألة مهمة لفهم شخصية جنبلاط. فهي تساعد على التقاط تلك المفارقات التي تعاني منها الأقليات في المشرق العربي وتحديدا الأقلية الدرزية "الموحدون" التي تعتبر في المقاييس النسبية أقلية الأقليات. فالدروز في لبنان مثلا يشكلون قرابة 5 في المئة من المجتمع، ولكن بحكم موقعهم الجغرافي ودورهم الخاص في تاريخ البلد السياسي يحتل الدروز مرتبة متقدمة في صوغ القرار وفي إدارة اللعبة.

هذه أيضا من "الثنائيات". فالدروز يتناقصون ديموغرافيا "سكانيا"، وفي الآن يحاولون الاحتفاظ بدورهم التاريخي في تشكيل هذا الكيان وصنعه. وبين العدد القليل والدور الكبير تلعب "الثنائية" دورها في إنتاج ذاك التوتر الذي يعبر عنه جنبلاط في شخصيته الباحثة عن موقع في وسط أقليات "أكثريات" تنمو سكانيا في إطار معادلة لبنانية محكومة بإطار جغرافي ضيق.

هناك "ثنائيات" كثيرة في شخصية جنبلاط القلقة. فهو وريث سياسة عائلية تقليدية وزعيم حزب حديث "الحزب التقدمي الاشتراكي"، وقيادته تحاول التوفيق بين الموروث التقليدي "العصبية الجنبلاطية" والمستجد الحديث "الحزب". وجنبلاط أيضا نتاج "ثنائيات" موضوعية يصعب عليه تغييرها أو تعديلها. فهناك ثنائية لبنان - العرب، والمسيحية - الإسلام، ولبنان المسيحي - ولبنان المسلم، وثنائية الدروز - الموارنة، وثنائية جنبلاطي - يزبكي "أرسلاني".

"الثنائيات" كثيرة في لبنان، وكل اللبنانيين يعانون منها إلا أن جنبلاط هو الأكثر حساسية منها وتأثرا بها نظرا إلى موقعه الخاص في دائرة تتجاذبها "ثنائيات" تدفع نحو الانقسام، بينما مصلحته تقضي بأن يحافظ على وحدتها وعدم إلغاء عناصرها المكونة لها. فالمصلحة تقع هنا بين المحافظة على الإرث التقليدي ومحاولة تطويره "تحديثه".

جنبلاط في هذا المعنى فلسطيني - لبناني، وسوري - لبناني، ومسلم - عربي، وقومي - أممي، وتقدمي - درزي... وأخيرا وهذا هو المهم في شخصيته: جنبلاطي - أرسلاني. فوالده كمال جنبلاط وجده شكيب أرسلان. أمه أرسلانية من تلك العائلة الدرزية التي تنافسه على زعامة الجزء الجنوبي من جبل لبنان.

كل هذه "الثنائيات" اجتمعت في شخصية جنبلاط وولدت لديه هذا القلق الدائم الذي يعكس نفسه في سلوكيات سياسية متوترة تتقلب بين هذا الجانب من "الثنائية" وذاك الجانب الآخر منها. وهو في هذا المعنى نتاج واقع لم يصنعه وحالات اندماج بين جزئيات من الصعب توحيدها من دون تضحية بجانب منها على حساب الآخر. وبسبب محاولات جنبلاط التوفيق بين الجزئيات في وحدة ثنائية تعرضت شخصيته القلقة للنقد نظرا إلى سلوكه المتعرج بين تعارضات يرى أنها في مجموعها تشكل خصوصية لبنانية نادرة في منطقة المشرق العربي.

قلق جنبلاط ليس ناتجا عن قرار شخصي أو وعي متماسك لحالات متعارضة بل هو نتاج ذاك التوتر الناجم عن "ثنائيات" لم يصنعها وإنما هي التي صنعته. فهو في النهاية ابن منطقة متوترة لم تعرف الاستقرار منذ عهود. وقلقه ليس اختراعا وأحيانا ليس من إنتاجه، وفي الكثير من الأحيان هو ضحية ذاك القلق نظرا إلى موقعه الخاص الذي وضع فيه من دون إرادة منه.

التوتر هو سمة من سمات الأقليات في المشرق العربي لأنه نتاج "ثنائية" تبحث عن استقرار وهوية ثابتة وانتماء لا لبس فيه ولا غموض. وجنبلاط "الجنبلاطية" هي التعبير الأوضح عن ذاك الالتباس في توضيح الخيار الثابت بين ثنائيات متقلبة. ولأن جنبلاط قرر كما أوضح في تلك المقابلة التلفزيونية ألا يشبه اللوح "الجماد" دخلت شخصيته القلقة في أطوار متقلبة لم تخرج في خطوطها العريضة عن تلك "الثنائيات". فهي مصدر توتره وهي التي رسمت في النهاية ذاك السلوك السياسي المتعرج الذي يريد تفريغ القلق من دون مغادرة الثوابت التاريخية والجغرافية والمبدئية

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 1007 - الأربعاء 08 يونيو 2005م الموافق 01 جمادى الأولى 1426هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً