العدد 1016 - الجمعة 17 يونيو 2005م الموافق 10 جمادى الأولى 1426هـ

نعم للقانون... لا للفساد العاري

منى عباس فضل comments [at] alwasatnews.com

كاتبة بحرينية

ثمة صفات وعناصر مشتركة تتميز بها الأمكنة والجدران العازلة التي يتم تشييدها في كل مكان من هذا العالم، إذ غالبا ما تقف وراءها ذهنية أنانية انعزالية منغلقة على النفس وتخاف التواصل مع المختلف، فضلا عن نظرة نرجسية متعالية للذات واحتقار الآخرين. هكذا تبدو حصيلتنا من تجارب التاريخ والدول والشعوب، فالأحياء التي يقطنها البيض كانت منفصلة وبمعزل عن أحياء ومدن السود إبان الحكم العنصري في جنوب إفريقيا. سور برلين نموذج آخر، جدار الفصل العنصري الذي لا تزال سلطة الاحتلال الصهيوني تصر على إقامته، هو ذاته لا يختلف في جوهره عن الجدار المحلي لعزل قرية المالكية، الذي بدوره يصر المتنفذ البحريني على الاستمرار في تشييده. فلو قاربنا ما بين العقليات التي تحكم فكرة إنشاء هذه الجدران، حتما سنجد أن المؤتلف بينها كبير حتى وإن اختلفت الجدران في مظهرها وأهدافها وتعددت أماكنها وارتفاعاتها والجهات القائمة عليها.

جدار الفصل العنصري الإسرائيلي المفروض على الشعب الفلسطيني، تعبير فاقع عن الواقع المعيشي الانعزالي الذي يفرضه الإسرائيليون على أنفسهم ويحرصون على الاستمرار فيه، منبع ذلك شعور بالنقص والتميز عن الشعوب الأخرى "شعب الله المختار"، إضافة إلى احتقارهم وخوفهم من الاختلاط بالأديان والثقافات والأقوام المتعددة. يشير الكاتب "سعد محيو" في مقال له بعنوان "يهود العالم 800 مليون نسمة" إلى "ان نجاح المسيحية والإسلام قد يكون وحده كافيا لتفسير فشل اليهودية. فالدينان الأولان "خصوصا الإسلام" نجحا في الانفتاح على كل البشر وكل المجتمعات، فيما الدين الثالث بدأ قبليا واستمر قبليا وانتهى قبليا، فحكم على نفسه بالتحول إلى دين عنصري مغلق على نفسه ومعاد لكل ما هو غير يهودي "غوييم". إسرائيل شاحاك أبدع في وصف هذه الظاهرة، إذ شدد على أن الاضطهاد العالمي لليهود لم يكن ليحدث على هذا النحو العنصري لولا عنصرية اليهود. "الخليج الإماراتية، 11/5/2005".

بدورهم، أصحاب الجدار العازل المحلي وتوابعهم هم أيضا يتجاهلون التغيير الذي طرأ على البلد خلال الأعوام الأخيرة، ومن دون أن يرف لهم جفن يتحدون القانون، وهم بذلك يجازفون بصدقية المشروع الإصلاحي الذي تتأسس عليه دولة القانون والمؤسسات. ليس ثمة ضرورة تأكيد أن صفة التعالي تمنعهم من النزول إلى عامة الناس في قرية المالكية للتوصل إلى تفاهمات وحل عادل يرضي الأطراف المتنازعة، لا يرغبون البتة في معرفة الكيفية التي يعيشها المواطنون في القرية، وحتى تلمس توجساتهم والتعرف على رغباتهم ومخاوفهم ومشكلاتهم المتعلقة بقطع الأرزاق، لأنهم على ما يبدو وببساطة شديدة، ينظرون إلى أنفسهم وكأنهم مخلوقات من طينة مغايرة لطينة المواطنين. انهم يصرون على فرض طوق العزلة على أنفسهم وعلى بقية خلق الله، بيد ان من يحكم على نفسه بالعزلة سينتهي به المطاف إلى التصرف بانغلاق وقصر نظر لا يرى من العالم وممن حوله أبعد من أنفه، وبالتالي إلى الظلم.

جدار الفصل العنصري الإسرائيلي صورة حية من صور سلطة الاحتلال وتمثلاتها البارزة في شعور الصهاينة بالخوف من ثورة أصحاب الحق وتنامي قدرتهم على مناهضة المحتل الذي عاث في فلسطين تخريبا وسرقة وفسادا. لهذا وذاك تصر الدولة الصهيونية على جدار الفصل العنصري، على رغم الإجماع الفلسطيني الرافض له وتحديا للإرادة العربية والدولية. الدولة الإسرائيلية تخنق الشعب الفلسطيني بالجدار العنصري العازل، وتحدد مسارات حركته وتضييق اتجاهاتها حتى تضمن تقييده وإفقاده الحرية في السجن الكبير الذي سورته بحيطان عالية تتحكم في مداخله ومخارجه. وبالمثل "جدار عزل المالكية" أيضا صورة من صور الفساد الذي كان ولا يزال يشكو منه المواطنون، هو أيضا يتحدى ويحتقر الإرادة الشعبية، لاسيما انه ليس أول ولا آخر الجدران العازلة في هذا الوطن، فهو فوق القانون، وجزء من مسلسل طويل عانى منه ولا يزال المواطنون في كل شبر وركن خصوصا في القرى البحرينية. هذا السلوك الإقطاعي الذي اعتاد على مد اليد والتطاول على المال العام واغتصاب سواحل البحر والأراضي وتخريب البيئة، انه حلقة من حلقات الفساد الذي يخالف القوانين وأبرزها قوانين التمليك والبناء والتشييد من دون تراخيص ولا هم يحزنون، والتي تعتبر البلد وما عليها ملكا خاصا مستباحا للمتنفذين وأعوانهم.

تابعت ونشرت صحيفة "الوسط" بلا كلل الأخبار تلو الأخبار عن "جدار عزل المالكية"، سواء أكانت عن احتجاجات واعتصامات الأهالي أو عن مذكرة المجلس البلدي الشمالي التي نصت على "أن السواحل ملك عام ينبغي المحافظة عليه، إذ يعيش الأهالي هموم سيطرة المتنفذين على ساحل القرية ومنع الأهالي من الاستمتاع بجمال الطبيعة في هذا الساحل القديم والجميل، والذي طالما استمتعوا بجماله واسترزقوا ومازالوا يسترزقون من بحره"، أو عما كشفه مدير عام بلدية الشمالي: "من ان عملية بناء الجدار غير مرخصة، وتم إخطار المتنفذ بتجاوزه من خلال إرسال ثلاثة إخطارات تدعوه فيها إلى إثبات ملكية الأرض". أو بشأن ما جاء على لسان النائب جاسم عبد العال: "إن بناء جدار العزل، انتهاك للقوانين المحلية والدولية ومخالف للمادة 26 من القانون المدني التي تنص على أنه "يحضر استملاك وتوريث الأموال العامة والبحار". والأهم ما نشر عن أمر جلالة الملك بتطبيق القانون ومحاسبة المخالف من دون استثناء واتخاذ جميع الإجراءات القانونية فيما يخص قضية "جدار عزل المالكية"، أثناء توجيه الجهات المعنية المتمثلة في وزارة البلديات والزراعة، علاوة على تصريح وزير البلديات بعد أن نقل توجيهات الملك إلى اللجنة الأهلية، مؤكدا أن الوزارة ستتعامل مع المتنفذ في بادئ الأمر بشكل ودي، إذ أمهلته أسبوعين لإزالة الجدار الذي تجاوز حدود ملكيته التي أثبتتها الوثائق، وإن لم يستجب للأمر ستحال أوراقه إلى النيابة العامة ومنها إلى القضاء.

مع الجدار صارت صدقية الدولة ومؤسساتها فوق صفيح ساخن، ووضعت هيبة الحكومة أمام اختبار صعب، ومثلها الجدية في تطبيق القانون واحترام أهله خارج دوائر المحسوبيات والعلاقات الشخصية. وهو ما يستوجب إسقاط الأقنعة عن ثقافة "التطاول" التي استباحت الأملاك العامة، وتوجيه المعاول لكسر جدار الصمت عن القوانين والأعراف التي أدت إلى استملاك الأراضي والشواطئ من دون وجه حق أو قانون. كذلك التمتع بالعطايا والمكرمات من دون عناء أو جهد أو تعب، هذا إن توافرت الجدية لتوقيف عجلة توريث الفساد وسرقات المال العام التي تكاد الإفلات من عقالها.

قرية المالكية اليوم تغلي تحت مرجل الجدار العازل، وهي تحتاج أكثر من أي وقت مضى إلى مواصلة رفضها للعزل والجدار. صحيح أن الحق يسترد بقوة القانون، والصحيح أيضا ان يكون القانون عادلا ونافذا على الجميع، لا استثناء فيه لأحد لا باعتبار النسب ولا الحسب، ينصف المظلومين ويرجع لهم حقهم، حتما لا نتحدث عن القانون المراوغ البطيء الذي يخطو خطى السلحفاة.

هل قلنا إن في الديرة شيئا ما يحتضر؟ أجل، وبكل تأكيد، انه الضمير، ذاك الذي في غيابه تفسح الدروب للسلب والنهب وممارسة الفساد، حتى تثبت لنا المعايير القانونية الجادة غير ذلك

إقرأ أيضا لـ "منى عباس فضل"

العدد 1016 - الجمعة 17 يونيو 2005م الموافق 10 جمادى الأولى 1426هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً