العدد 1023 - الجمعة 24 يونيو 2005م الموافق 17 جمادى الأولى 1426هـ

الثعلب فات... فات وبذيله سبع لفات!

محمد حسن العرادي comments [at] alwasatnews.com

ما أجمل الذاكرة حين تعود إلى الوراء سنوات وسنوات، فتستحضر أمام العين في أقل من لمح البصر بعضا من الألعاب الشعبية التي كان أطفال البحرين يمارسونها بكل براءة وعفوية وأعتقد أن كثيرا منا سيتذكر بمجرد قراءة عنوان هذا المقال، ما لا يعد ولا يحصى من تلك الألعاب والأمثال التراثية، من قبيل "الصبة"، "اللقفة"، "الصعقير" ولعبة "الثعلب فات. .. فات وبذيله سبع لفات".

والغريب أن أحدا منا لم يكن ليسأل عن معنى اللفات السبع التي كانت ترمز لها لعبة "الثعلب فات... فات" ! كما أن أحدا منا لم يتساءل في يوم من الأيام... لماذا تم اختيار الثعلب ليكون محورا لهذه اللعبة، ترى هل وقع الاختيار على الثعلب بالذات لأنه ماكر وغادر، أم لأنه سريع الحركة ممتلئ بالحيلة و"الدغيلة" "أرجو ألا أسأل عن معنى "الدغيلة" لأنني كنت أسمعها هكذا منذ زمان ولم أجد لها أي معنى، تماما مثل كلمات كثيرة في لهجتنا المحلية"، وبالعودة إلى الثعلب فإننا سنجده خفيف الوزن بارع الدهاء، يضرب دائما تحت الحزام.

بالنسبة إلي كان اسم الثعلب يرتبط دائما بأسماء السراق الكبار الذين "يسرقون الجمل بما حمل ولا من شاف ولا من درى" وكثيرا ما كنت أسأل نفسي هل كان الثعلب الذي فات... فات هو الثعلب ذاته الذي "دخل جوعان إلى الحديقة بعد أن صام ثلاثة أيام، حتى يستطيع أن ينفذ من ثقب في جدار المزرعة، ثم بعد أن أكل وشبع عجز عن الخروج من الثقب ذاته، فاضطر إلى الصوم ثلاثة أيام أخرى حتى يخرج وهو جوعان أيضا "أحدهم قال لي إن الثعالب أشكال وألوان، وأشار إلى أنه يعرف ثعلبا ماكرا دخل إلى الحديقة "شهارا ظهارا" وأكل منها حتى شبع وشرب حتى ثمل، وأنه لم يكتف بذلك بل حمل على ظهره ما لذ وطاب وسافر إلى بلاد الواق واق، فاستأجر مخازن من حديد لا تفتح إلا بالأرقام السرية، ثم أودع فيها كل ما حصل عليه وعاد سالما معافى إلى أرض الوطن.

يا لهذه الثعالب دائما تفوت وفي ذيلها لفات كبيرة، هل تراكم سمعتم عن ذلك الثعلب الذي فات في صفقة كبيرة كانت أكبر من اللفات التي استطاع أن يحملها في ذيله الطويل، ما أدى إلى أن ذيله انحشر في أحد الأبواب الأوتوماتيكية التابعة لأحد فنادق دولة أجنبية، ما اضطره إلى أن يمكث هناك أكثر من 6 أشهر على رغم نوبات الحزن الشديد التي كانت تنتابه وهو بعيد عن صولاته وجولاته التي شهدتها ساحات العمل الميداني في الغرف الضيقة المغلقة التي كانت لا تقي من حر الصيف ولا تحمي من برد الشتاء.

لكنه حين عاد إلى أرض الوطن بعد جهد جهيد، وبعد أن هدأت العيون وصمتت الألسن وانشغلت العقول بموضوعات أخرى، اضطر إلى أن يتوارى عن الناس، وأن يغير سيارته الكبيرة إلى سيارة من النوع الصغير على رغم انه احتفظ بالأرقام ذاتها التي كانت تبث الرعب والخوف حين تمر عابرة لشوارع إحدى القرى في البحرين.

ومن سخريات القدر أن هذا الثعلب الماكر جدا قد استأجر له مكتبا أنيقا بإحدى البنايات الفاخرة في المنطقة الدبلوماسية قريبا جدا من وزارة العدل، حتى وكأن المرء يحسب انه حين فعل ذلك إنما أراد أن يوصل أكثر من رسالة في آن واحد.

الرسالة الأولى: كانت موجهة إلى أصحاب الضمائر الحية التي تجمعت أكثر من مرة بالقرب من وزارة العدل تطالب، بإلغاء قانون 56 الذي يوفر غطاء قانونيا لكثير من الثعالب الماكرة التي عاثت في البلاد والعباد فسادا وإفسادا طوال أكثر من ربع قرن من الزمن، فهو يقول لهم: ها أنا أنظر إليكم من وراء نظارتي السوداء... معتمرا غترتي الفاخرة من نوع "شماغ آخر موديل" جالسا خلف مكتبي الأنيق والهادئ أنعم بهواء التكييف المركزي، بينما أنتم تنصلون تحت حرارة الشمس اللاهبة، ترفعون صوتكم صراخا وعويلا فلا يعيركم أحد بالا، ولا تستطيعون حتى تحريك الغترة من تحت العقال.

الرسالة الثانية: كانت موجهة إلى المحامين والحقوقيين والدستوريين الذين فتشوا في القوانين والأنظمة صفحة في إثر صفحة يودون لو يحصلون على منفذ يستطيعون من خلاله أن يضعوا هذا الثعلب خلف القضبان، لكن محاولاتهم جميعا تكسرت على صخرة القضاء الذي ينظر إلى الأمور من منظار آخر، فإذا بالمحامين يلوذون بالصمت ويقولون لموكليهم هذا الثعلب مسنود وظهره قوي، فابحثوا لكم عن ظهر تستندون إليه، حتى ولو كان الظهر خارجيا.

الرسالة الثالثة: كانت موجهة إلى أصحاب الملايين التي وضعها الثعلب في لفات ذيله الطويلة وأودعها في الخارج قبل أن يعود وقد ارتسمت على وجهه ابتسامة الفرح والرضا، وهو يقول لهم: اللعب مع الكبار له طعم مختلف، وإن كنتم على غير مستوى المنافسة... فإن أفضل حل لكم هو ألا تدخلوا الحلبة أساسا، وهكذا نرى أن قوائم المتضررين والمصابين من هذا الثعلب كبيرة ولا يستطيع أحد أن يحمل ملفاتها منفردا، لكنه مع ذلك يقول للجميع إن هذه الملفات أصبحت في حكم الساقطة، لأن القانون السائد هو... عفا الله عما سلف؟

الرسالة الرابعة: كانت موجهة إلى عموم الثعالب والذئاب وجميع أنواع المخلوقات المفترسة، وهي تقول عليكم باستخدام الذكاء والحيل، ولابد لكل منكم أن يضع في حسبانه بأن الزمن دوار، لذلك فإن عليه أن ينتبه ويحذر من دورات الزمن، وألا يكتفي بأن يكون ذيله طويلا، ولفاته متعددة، لكنه مطالب بأن يضمن حماية ظهره جيدا، ويقدم إليهم تجربته بكل فخر قائلا: لا تضع مصيرك كله في لفة واحدة.

ويستمر الثعلب الماكر في توجيه النصائح والرسائل الذهبية لإخوانه فيقول لهم: إياكم أن تأمنوا لأحد من الكبار، لأن الكبار يهتمون بمصالحهم فقط ومن دون شك فإن ذلك لا يمنعهم من تقديم ضحايا وقرابين صغيرة هنا أو هناك، لذلك فإن عليكم العمل على تأمين مستقبلكم ماديا ومعنويا من خلال الأموال التي تكدسونها سريعا، وربما من خلال تداخل العلاقات والمصالح المشتركة حتى يحسب لكم حساب، ولا يتم رميكم عند الباب في أول اختبار أو عتاب.

ويضيف الثعلب بصوت حاد ومباشر استلهمه من تجاربه الناجحة في إدخال الرعب على الذين رماهم حظهم العاثر تحت قبضته أبان انتفاضة التسعينات في البلاد، فيقول مخاطبا جموع الثعالب إياكم والاحتفاظ بما تحصلون عليه من غنائم وأموال ومنقولات في داخل البلاد، فمن يدري ربما تتغير الأمور ونجد أنفسنا قد أخذنا على حين غرة، لذلك فإن عليكم أن تحتفظوا بهذه الأموال بعيدا عن البلاد، في مكان آمن لا تطولها أيدي القانون.

الرسالة الخامسة: كانت موجهة إلى مجلس النواب ومجلس الشورى مجتمعين أو منفردين، وهي تقول لهم بالفم المليان: لقد طارت الثعالب بأرزاقها، ومهما حاولتم فإن القوانين التي ستنجحون في تمريرها لن تستطيع أن تلغي حقوقنا والقوانين التي توفر لنا الحماية، أنتم بحكم القانون وبحكم الدستور الجديد ممنوعون من الحديث أو مجرد التفكير في كل ما قبل ،2002 ورحم الله رجلا عرف قدر نفسه... آسف هناك نساء أيضا، رحم الله من عرف قدره من الرجال والنساء. الرسالة السادسة: كانت موجهة إلى الجمعيات السياسية وكان نصها استفزازيا جدا ومما جاء فيه: أيها الاخوة والرفاق السياسيون أقوياء البنية طوال الأعناق، لقد عدتم إلى البلاد بعد أن شبعنا منها وأخذنا كل ما فيها من خيرات، وسيطرنا على جزء كبير من الأراضي والعقارات، وها أنتم تتنقلون من مكان إلى مكان تبحثون عن مأوى فيه تسكنون فلا تجدون إلا ما تركناه لكم ونحن عنه مترفعون، وتفتشون عن لقمة خبز تقتاتون بها فلا تجدون إلا وجبات مغموسة بالتعب والعرق منغصة عليكم وعلى أولادكم. ويواصل الثعلب الفار والعائد من الأسفار فيفوت في مشروع ويخرج من مشروع، وهو لم يعد يشعر بالخوف أو الجوع، ولم يعد يرهبه الحديث عن إنصاف ضحايا التعذيب، أو تعويض اسر الشهداء، لأنه لن يدفع فلسا واحدا من جيبه أبدا، وهو يعرف أن أي فرد من أصدقائه الثعالب لن يدفع شيئا أيضا، لذلك تراهم بين فترة وأخرى يجتمعون في إحدى المزارع التي يمتلكها أحدهم، وهناك يمارسون لعبة الكراسي الموسيقية.

لكن الغريب هو أن أحدا منهم لا يخجل من نفسه وهو يجر ذيله متباهيا، وهو ينادي "الثعلب فات فات وفي ذيله سبع لفات"، ترى متى يتوقف الثعالب عن ممارسة لعبتهم المفضلة، ويتركون مجالا لسيادة القانون، في دولة تنادي بالتحولات الديمقراطية، وتسعى للتشبه بالمملكات الدستورية العريقة، سيبقى هذا السؤال قائما إلى أن يطمئن الشعب إلى أن كل الثعالب الماكرة قد تم وضعها في أقفاص من حديد حتى لا تعد لديها القدرة على تشكيل خطر على القانون وعلى الحياة المدنية التي ننشدها في دولة القانون والمؤسسات

إقرأ أيضا لـ "محمد حسن العرادي"

العدد 1023 - الجمعة 24 يونيو 2005م الموافق 17 جمادى الأولى 1426هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً