العدد 2939 - الأربعاء 22 سبتمبر 2010م الموافق 13 شوال 1431هـ

عودة زمنية إلى مكان مسرح شكسبير

لندن تعيد اكتشاف ضواحيها

في العام 1903 أصدر الروائي الأميركي جاك لندن روايته «أهل الهاوية» عن ضواحي شرق لندن. فالروائي المولود في سان فرانسيسكو في العام 1876 قرر في نهاية القرن التاسع عشر الارتحال إلى العاصمة البريطانية والعيش في أزقتها الفقيرة والمهملة بغية اكتساب معرفة حسية عن شبكة العلاقات التي تحرك العالم السفلي في مدينة كانت تعتبر آنذاك مركز التجارة الدولية في مجتمع صناعي تتوالد في أعماقه ودواخله انقسامات اجتماعية تنتج طفيليات تعيش على هامش قوة صناعية لا تأبه كثيراً لمصير فئات لا تستطيع التكيف مع المتحولات المتسارعة واللحاق بها.

«أهل الهاوية» في رواية لندن هم تلك الفتات المسحوقة التي تقتات من الفتات وبقايا الفضلات المرمية في أزقة مدينة لا تعرف الهدوء من قسوة التقدم وما يخلفه من ضحايا يقذف بها في ضواحي شرق العاصمة. فهذا الشرق من المدينة كان في القرن السادس عشر مركز الصناعة والتجارة ومنطقة العمران والمسارح ومحطة الزوار والمسافرين وكل القوى الطامحة للكسب والشهرة والتشبع من ثقافة نامية إلى جوار آلة لا تشبع من مراكمة المال والثروات.

التسارع في التقدم الصناعي - التجاري المترافق مع النمو العشوائي لمركز المدينة في شرق لندن في القرن السادس عشر أدى إلى تحطيم الصورة ودرس عراقتها العمرانية - الثقافية وتوليد تجمعات فقيرة على هامش الضاحية ما ساهم لاحقاً في ارتحال الأغنياء عنها وتركها تتخبط في أحيائها وأزقتها من دون انتباه لتاريخها وموقعها الخاص في تنوير العالم بمطابعها ومسارحها.

انهيار شرق لندن وارتحال مركزها إلى الغرب والوسط والشمال والجنوب امتد من القرن السادس عشر إلى التاسع عشر وتحولت الضواحي إلى عالم سفلي تعيش في أنفاقه وتحت أرضه مجموعات مهمشة تبحث عن لقمة في أرض أهملت وغادرها أصحابها من دون رجعة.

هذه الصورة النمطية لشرق لندن سجل حيثياتها ووقائعها اليومية الروائي الأميركي في قصته عن «أهل الهاوية» وتلك الشرائح المتساقطة من البرج العاجي إلى حضيض الضواحي في نهاية القرن التاسع عشر ومطالع القرن العشرين.

استمرت رواية جاك لندن تلهم الذاكرة بالصور عن الجماعات الممزقة والمهملة في الأسواق والأنفاق والسراديب إلى ثمانينات القرن الماضي حين بدأت الشركات والهيئات والمنظمات تعيد اكتشاف تراث مدينة كانت تضج بالحياة في زمن سابق.

الإعادة ساهمت في عودة البحث عن شرايين ومصادر ومواقع ضواحي مدينة لعبت دورها التاريخي في تشكيل مدارس الفن وقنوات ثقافة تأسست على قواعد كان لها أثرها في إطلاق حرية الكلمة والاستماع إلى الآخر وما ينتجه من إبداع في الأدب والشعر والمسرح.

ويليام شكسبير كان من رجال ضواحي شرق لندن في عهد ازدهارها في القرن السادس عشر. كريستوفر مارلو (1564 – 1593) عاصر شكسبير وساهم إلى جواره في إطلاق حركة مسرحية كان لها وقعها الخاص في تعريف عهد الملكة إليزابيث الأولى. فالعصر الاليزبثي أخذ اسمه من الملكة البريطانية ولكن روحة استمدت قوتها من تلك التموجات الأدبية والشعرية والفنية والمسرحية التي استقرت آنذاك في ضواحي لندن وشرق المدينة.

إهمال الذاكرة اسقط العاصمة في فراغ تاريخي أسس فجوة اجتماعية بين الأغنياء والفقراء ودفع الأثرياء إلى النزوح من الشرق هرباً من البؤس وتضخم شريحة البؤساء التي سجل جاك لندن انطباعاته عنها في «أهل الهاوية» في نهاية القرن التاسع عشر.

مئة سنة تفصل بين رواية لندن وإعادة اكتشاف الضواحي والحفر في ذاكرتها وأحيائها وأزقتها وزواريبها وسراديبها وأنفاقها بحثاً عن ماضٍ كان له مذاقه الخاص في إنتاج ثقافة مسرحية شعرية لم يعد بالإمكان تكرارها كما كانت في زمن شكسبير ومارلو في القرن السادس عشر.

الآن وبعد أكثر من 30 عاماً على بدء الحفر وإعادة الاكتشاف أخذت الضواحي تعود إلى سابق عهدها حاملة معها بقايا الماضي إلى حاضر القرن الجاري وما يمثله من تطور تقني وأجهزة كومبيوتر وأدوات اتصال وتنصت ومراقبة.

شرق لندن الذي وصفه الروائي الأميركي في رحلته الكئيبة بدأ يستعيد عافيته وأخذت تنتشر في دروبه وضواحيه المقاهي والمطاعم والأحياء الفنية والأزقة التي لا تنام من شدة ضغط السياح والزوار والطامحين للتعرف إلى الأمكنة التي عاش بها شكسبير ومالرو في قرن عرف بخصوبته الشعرية والأدبية والمسرحية.

ضفاف نهر التايمس أخذت تشد الأنظار إلى ماض مزدهر دخل في طور الإهمال نحو ثلاثة قرون ثم بدأ ينهض من تحت الأرض والأنقاض ويعيد ترميم بقايا صور كادت أن تتآكل مع تضاعيف تموجات الزمان.

حين لا تموت الذاكرة تتجدد الحياة في شرايين الشعوب. وهذا ما بدأ يتمظهر في صورة ضواحي لندن التي أخذت تشق طريقها من الظلمة إلى النور بعد أن تسابقت الشركات والهيئات والمنظمات على نفض الغبار والركام عن أسس ثقافة قيض لها أن تولد في هذا المكان.

إعادة اكتشاف مسرح شكسبير على ضفاف التايمس وفي زقاق «لندن بردج» كان من علامات عودة الحياة إلى شرايين الضاحية ونهوضها من سبات النوم الطويل. فالمسرح الذي أعيد ترميمه وتحديثه حافظ على هيكله كما كان عليه في العصر الاليربثي. والمسرحية التي تعرض على خشبته لم تتغير لا في لغتها أو لهجتها الصعبة كما صاغها شكسبير في زمنه. اللباس والحركات لم تتبدل وإنما تم إحياء أشكالها وألوانها كما كانت في القرن السادس عشر. حتى تكوين المسرح وتشكيلته ومقاعده وتراتب طبقاته إلى جانب مساحة للوقوف والمشاهدة من دون جلوس تم المحافظة عليه من دون تعديل.

المسرح الشكسبيري عاد كما كان عليه في أيامه. السقف مفتوح على الفضاء. الخشبة بسيطة ومتواضعة. الفرقة المسرحية تعتمد على ذاكرتها وصوتها في الصراخ وأسماع الجمهور المتراتب الطبقات حبكة القصة وتشابكاتها. لا حضور للديكور الفخم أو الأضواء أو مكبرات الصوت. ممنوع التصوير بعد الافتتاح. ممنوع فتح أجهزة الجوال في مساحة صغيرة لا مجال فيها للسعال والكحة.

المشهد الشكسبيري تراه كما هو من دون زيادة أو تنقيح أو تعديل أو إضافة أو إدخال عناصر تقنية وحديثة. فقط شكسبير هو الغائب عن المسرح، وما عداه حاضر في المشهد والخشبة والجمهور. فالمشهد يعيد الذاكرة إلى صور الماضي كما كان في مخيلة المكان في القرن السادس عشر.

إنها لحظات جميلة وصادمة. وهي من كثرة ضغطها الزمني على المشاهد تمنع الصدمة من المتابعة وأحياناً من ملاحقة القصة. فالقصة التي يريد قولها شكسبير ليست مهمة، لأن الأهم هو خشبة المكان في ذاكرة زمان أعيد اكتشافه وترميمه ليعود كما كان إلى زقاق كان له وقعه في تأسيس عالم فني يتجدد كل يوم.

العدد 2939 - الأربعاء 22 سبتمبر 2010م الموافق 13 شوال 1431هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً