العدد 1033 - الإثنين 04 يوليو 2005م الموافق 27 جمادى الأولى 1426هـ

دروس من المالكية إلى الأمم المتحدة

قاسم حسين Kassim.Hussain [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

الاحتفال الحاشد الذي شهده ساحل المالكية قبل أسابيع، احتجاجا على الجدار العازل، حضره عدد من رؤساء وأعضاء الجمعيات السياسية، إلى جانب نواب برلمانيين وممثلين بلديين وجمهور عريض من مناطق شتى. وفيما كان الحضور يستمع إلى كلمات تتراوح نبرتها صعودا وهبوطا، صعد إلى الجدار بعض الشباب المتحمس، محاولا هدمه، فلم يفلحوا بعد أكثر من ساعة في فتح أكثر من فتحة صغيرة. بعض علماء الدين والمنظمين ذهبوا إلى الشباب وحاولوا إقناعهم من دون جدوى، وبعد فترة جاءت سيارة شرطة تستكشف... وحدث المحذور.

الجدار لم يهدمه الانفعال ولا الحماس ولا المطرقة، ولكن هدمته تلك اللغة العقلانية التي خاطبت الأطراف المختلفة بلغة القانون.

المشهد نفسه تكرر تقريبا في الاعتصام السلمي أمام مبنى الأمم المتحدة في يوم التضامن مع ضحايا التعذيب الاسبوع الماضي، فبينما كان مئات المواطنين من مختلف الأعمار والمناطق والشرائح يستمعون إلى الكلمات إذا ببضعة شباب متحمس ينفلت إلى الشارع المقابل، وبعد جهد جهيد تم إعادتهم إلى أماكنهم وتطويق الموقف. الحاضرون حينها لم يدركوا سر هذه الانفلاتة الغاضبة، لكن قيل لاحقا انهم اتجهوا ناحية سيارة يستقلها بعض "العيون" جاءوا للتصوير، فيما نشر المتصيدون مانشيتا فاقعا عن الاعتداء على سيارة أمن، وهو ما لم يحدث يقينا!

الفعالية كانت سلمية وحضارية، ولم يكن هناك شخص ملثم كي يخاف من التقاط صورته لتؤخذ إلى أجهزة الأمن، ولم يكن هناك داع لهذه الحركات المدانة التي يقوم بها عدد قليل جدا، ويتضرر منها المجموع وتحرف العمل عن الهدف، وتربك الجمعيات الـ 12 السياسية والمدنية المشاركة، وتفتح الباب أمام المتصيدين ليخرجوا بمانشيتات من نوع: "اعتداء على سيارة شرطة" أو "اعتداء على رجال الأمن وتكسير سيارة للشرطة".

ولأن المسيرات والمظاهرات لها أهداف قد نتفق أو نختلف معها، ولأن كثرتها يفقدها قيمتها، إلا أن بعضها على الأقل يحمل مطالب عادلة ومشروعة، ولا يمكن المزايدة على حسن نية أصحابها أو التشكيك في وطنيتهم وولائهم، فمن المهم ألا تنتهي كل فعالية شعبية إلى طريق ملغوم بسبب "الخروج على النص". فليس هناك ما هو أكثر مدعاة للإرباك والحرج والمتاعب من الخروج على ما هو متفق عليه بين الجميع. وغالبا ما يكون الانفعال هو الذي يحرف الاتجاه ويشوه القضايا العادلة التي اجتمع عدد من أبناء هذا الشعب من أجلها. وليس من المعقول أن يتم محاصرة أصحاب الآراء في كل مرة بين نارين: إما مغازلة "أمن الدولة" والترهيب بعودته، أو إلغاء هذا الحق المشروع في التعبير السلمي عن الرأي، بسب هذه الانفعالات والانفلاتات الخارجة عن المعقول والمقبول. وإذا خيرنا بين حرية التعبير وبين القمع سنختار الحرية بلا تردد، فذلك خيار لا رجعة فيه للبحرين الخارجة من أتون "أمن الدولة" وما جر على الوطن من كوارث وويلات وجراحات لم نحسن مداواتها بعد.

في المالكية وأمام مبنى الامم المتحدة، كان الوضع على أحسن ما يرام، الكل سيحترمك مادمت محتفظا بوقارك، أما إذا أخطأت فهناك كثير من العيون المتربصة والتماسيح المستعدة لذرف الدموع، التى لا تكفي عشرة مناديل لتجفيفها! ابحث عن خطأك، ولا تعط غريمك فرصة للبصاق في وجهك على طريقة "سعد بن عاقول" في مسلسل "درب الزلق"، فما أسهل تحويل الضحية إلى جلاد، في ظل ميزان القوى المائل دائما للمتنفذين وأصحاب رؤوس الأموال وأصحاب الجدران العازلة.

صدقوني... لا خوف من حرية التعبير، فلم ينهض شعب من دون حرية تعبير، ولكن الخوف كل الخوف من الكبت والقمع ومصادرة الآراء. حرية التعبير ليست قطعة من الفردوس لا يحدث فيها خطأ أو انحراف أو سوء تقدير، انما إذا قارناها بالكبت الذي شربنا منه حتى الثمالة، فسنختارها من دون تردد، فهي التي تميز حياتنا عن حياة القطيع. وما حارب من أجله هذا الشعب طوال ثلاثين عاما حتى حصل على هذا السقف المعلوم من الحرية، يجب عدم التفريط به بسبب زلة هنا أو خطأ هناك. ومهما بدت القضايا الخلافية متعمدة، أو تصور البعض انها "مؤامرة" إلا أن طريقة الرد يجب ألا تتجاوز الطرق القانونية، مادمنا نطالب بـ "دولة القانون"، لكيلا يفسح المجال أمام التماسيح، الذين ينقلبون كالحرباء في ظرف ساعة واحدة إلى دعاة حرية وضحايا إرهاب ومدافعين أشاوس عن حقوق الانسان! فيصفون أنفسهم في قائمة واحدة مع صاحب القلم الشامخ سمير قصير!

هذه البطولة "البهلوانية" خانتهم ثلاثين عاما، ولم ينطقوا حرفا يوم كان هناك ثلاثة آلاف معتقل سياسي دخلوا معتقلات أمن الدولة بسبب مطالبتهم بعودة البرلمان والديمقراطية التي كانت "لا تناسب مجتمعنا" آنذاك كما كانوا يكتبون! الخطأ اليوم ليس خطأ الحرباء التي تتلون مع الفصول، وإنما من يترك لها الفرصة للتسلق على رقاب الجمهور العريض، ويقدم وجهه مترا ليبصق عليه التافهون.

ومهما حدث، ليس هناك خطر على الدين والوطن من حرية التعبير، وانما الخطر من القمع ودعاة الفتنة، ومن هذا اللعب المكشوف على الوتر الطائفي، الذي يستغله المتصيدون في الماء العكر فيسكبوا من دموع التماسيح شلالات وأنهارا، فيما كانوا طوال ثلاثين عاما إلى جانب الكبت والرأي الرسمي الواحد على طول الخط، ولم يلتقوا يوما مع التطلعات الشعبية المشروعة في وطن تسوده العدالة والمساواة وتختفي فيه مظاهر التمييز بين المواطنين، ويطبق فيه القانون على الجميع.

الحرباء من عادتها التلون، ولكن أما آن الأوان للبعض أن يربأوا بوجوههم أن تكون مبصقة للتافهين؟

إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"

العدد 1033 - الإثنين 04 يوليو 2005م الموافق 27 جمادى الأولى 1426هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً