العدد 2416 - الجمعة 17 أبريل 2009م الموافق 21 ربيع الثاني 1430هـ

الأنظمة العربية وعقدة فلسطين

السيد محمد حسين فضل الله comments [at] alwasatnews.com

تعيش الأنظمة العربية، المتهالكة للانفتاح على حكومة العدو الجديدة، حالا من الاضطراب السياسي، في ظلّ المتغيّرات الدولية، وما أفرزته الحرب العدوانية على غزة من نتائج على المستوى العربي والإسلامي... ولذلك تسعى جهدها لتحريك بعض الملفات بطريقة إعلامية وسياسية باتت مكشوفة وواضحة للجميع.

إن المشكلة الكبرى التي تصيب الواقع العربي الرسمي تتمثل في العقدة من فلسطين، هذه القضية التي تأبى أن تموت، وهذا الحق الذي يتمرّد على كل محاولات التناسي والنسيان، ولذلك تستمر هذه العقدة في التعبير عن نفسها في سياقات مختلفة ومتعددة، تقف على رأسها محاولة الاقتصاص من المقاومة المجاهدة في لبنان وفلسطين، والتي فتحت أعين العرب على مرحلة جديدة أُعيدت فيها القضية الفلسطينية إلى الواجهة، وباتت الشعوب تدرك واقعية الشعارات في مسألة هزيمة العدو... وتلك هي الجريمة التي ارتكبتها فصائل المقاومة في كونها وضعت العالم العربي أمام خيارين: خيار العمل لتحرير فلسطين، أو خيار السعي للتحرر من فلسطين، وهو الخيار الذي ترى فيه معظم هذه الأنظمة حياتها واستمرارها.

إنني أقول لفصائل المقاومة المجاهدة في لبنان وفلسطين: إنه لشرفٌ كبير لكم أن تلاحَقوا تحت عنوان دعمكم للشعب الفلسطيني، وتبنّي قضيته التي تمثل أنصع قضية من قضايا التحرر على مستوى العالم كله... لقد أصبحت فلسطين -منذ زمن- هي المعيار الذي يسقط تحت قبته المتواطئون والمنحرفون، ويرتفع نحو هامته الصادقون والمخلصون، فطوبى للمخلصين لهذا العنوان لأنهم في امتحان سياسي وإعلامي وأمني عظيم.

ومن رحم هذا العنوان يتجدد الخطر الصهيوني على المسجد الأقصى، في الحفريات المتجددة تحت أعمدته، وفي تدنيس المستوطنين المستمر له، إلى جانب الخطط الصهيونية التي بدأ العدو بتنفيذها لتهجير المقدسيين وتهويد المدينة، في ظل صمت عربي وتواطؤ مشهود من أولئك الذين ربطوا مصير عروشهم بعربة الاحتلال، وأرادوا للقدس أن تكون رهينة في حسابات التسوية التي لا تأتي.

وفي ظل هذا الواقع نلمح استجداء متواصلا من بعض العرب للحديث مع رئيس وزراء العدو، والاتصال به، سواء من رئيس السلطة الفلسطينية أو غيره، فيما تتواصل عملية الخداع اليهودي المستمر منذ ما قبل مؤتمر أوسلو، لتستمر عملية القضم التدريجي لما تبقى من الضفة في بحر المستوطنات، الذي أبقى في الضفة جزرا جغرافية للفلسطينيين يُراد لها أن تكون سجونا كبيرة لهم، إلى جانب سجن غزة الذي يمثل السجن الأكبر في العالم، في ظل الحصار الذي يتفرّج عليه العالم بأسره.

إننا نسأل أمام تأكيدات «ليبرمان» بأن كيانه غير ملزَم بالعملية التي انطلقت في «أنابوليس»، وأمام خطة نتنياهو بالحديث عن الجانب الاقتصادي فحسب: ماذا سيبقى للفلسطينيين من طرح الدولتين الذي يطرحه «أوباما»، والذي لايزال رئيس السلطة الفلسطينية يعوّل عليه إلى جانب بعض العرب الذين يتخدّرون بالتصريحات والمؤتمرات، وينامون على حرير الكلمات الاستهلاكية الطائرة في الهواء؟!

ومن جانب آخر، اجتمع وزراء خارجية عرب في عمان لتحرير رسالة بالإنجليزية من صفحتين للرئيس الأميركي، تتحدث ببعض التفاصيل حول المبادرة العربية التي تجاهلتها «إسرائيل»، وبقيت فوق الطاولة في انتظار العطف الإسرائيلي للقبول ببعض بنودها أو للتفاوض عليها... صحيح أنهم هددوا بأنها لن تبقى طويلا في هذا الموقع، لكنهم يخافون من إنزالها إلى تحت الطاولة، لأن ذلك يجعلهم وجها لوجه أمام الموقف الصعب في مواجهة التحديات الإسرائيلية لكل الواقع العربي في ضعفه وهزاله وتمزّقه، وهذا ما لا يريدونه لأنهم وضعوا المقاومة وراء ظهورهم، واعتبروا ممارستها جريمة يعاقب عليها القانون.

ولقد هدف هذا الاجتماع إلى تفويض الملك الأردني باسم هؤلاء الوزراء، وسط وَهْم الحديث عن ضغط يمارسونه على أوباما بصفته زعيما في بلد معنيّ بما يسمى عملية السلام، لتحقيق الفرصة للمبادرة العربية التي يُراد لها أن تحصل على مصادقة أميركية ولو ضمنية حتى يفسح ذلك في المجال أمام العرب لمحاورة «ليبرمان» و»نتنياهو» من الباب العريض، وتلك هي غاية العرب في أن يستمعوا إلى كلمات أميركية جديدة، وإنْ تكن مشفوعة بوعود كاذبة، وبتأييد مستمر لـ»إسرائيل» ومصالحها الاستراتيجية، مهما تغيّرت الأسماء والعناوين في الإدارات الأميركية المتعاقبة.

وفي لبنان، تعود إلينا ذكرى الحرب الأهلية الوحشية المجنونة التي انطلقت فيها التفجيرات القاتلة للمدنيين، والذبح على الهوية، وتقسيم البلد إلى مناطق معادية لبعضها على أساس طائفي، يستمد خطوطه وتعليماته من خلفيات إقليمية، أو من خلفيات دولية من خلال الصراعات الدولية في مرحلة الحرب الباردة.

إن على اللبنانيين أن يأخذوا العبرة من هذه الحرب المشئومة، ويدرسوا أسبابها التي كانت تتحرك في التعقيدات الطائفية والأحقاد الحزبية، حتى لا يعود مثل هذا الجنون الأمني الطائفي الخاضع لتخطيط الآخرين الذين استغلوا الحريات اللبنانية لإثارة الفوضى، التي تحوّلت الأمور فيها إلى حرية القتل والتدمير والتهجير والتفجير، ليستبدلوا الحقد بالمحبة، والطائفية بالمواطنة، والصراع المعقَّد بالتنافس الحركي، ويدرسوا قانون الانتخاب المرتكز على التمثيل الطائفي ويختاروا قانونا يوحِّد اللبنانيين في دائرة واحدة على أساس النسبية. وعليهم أيضا أن يَخلصوا إلى تأسيس المجلس الدستوري الذي يمثل المعيار لسلامة الانتخابات أو عدم سلامتها، إضافة إلى قانون محاكمة الوزراء وقانون «من أين لك هذا»، ليعود لبنان دولة حضارية ذات إشعاع روحي وفكري وسياسي وثقافي، وقوة عادلة قادرة يحكمها القانون الذي يتساوى فيه الجميع في حقوقهم وواجباتهم، ويعود إليه الذين هاجروا منه ليجدوا فيه العيش الكريم والفرص العملية، وليحققوا له كل ما يملكون من القدرات العلمية التي اكتسبوها في بلاد الاغتراب.

إننا نريد لبنان الدولة لا لبنان المزرعة، ولبنان الوطن لا لبنان الزعامات الطائفية التي تنفّذ سياسات الآخرين في النطاقين الإقليمي والدولي، وذلك من خلال مصالحها الطائفية والشخصانية والحزبية. كما نريد لبنان الفرح في صناعة المستقبل، لا لبنان المأساة الغارق في عصبيات الماضي ومتاهات الحاضر.

إقرأ أيضا لـ "السيد محمد حسين فضل الله"

العدد 2416 - الجمعة 17 أبريل 2009م الموافق 21 ربيع الثاني 1430هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً