العدد 1064 - الخميس 04 أغسطس 2005م الموافق 28 جمادى الآخرة 1426هـ

أوروبا. .. والفلسفة الإسلامية

حلقة مفقودة في سلسلة التطور

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

حين يؤرخ الأوروبيون لتاريخ تطور الفلسفة الأوروبية من الماضي إلى الحاضر يقفزون فوق الحضارة الإسلامية العربية ويتجاهلون في سلسلة حلقات المعرفة حلقة مهمة أسهمت في تطور الفكر الأوروبي المعاصر والحديث.

معظم الموسوعات والكتب حين تتحدث عن الفلسفة الأوروبية تقطع التاريخ إلى نصفين: الأول يبدأ من الفلسفة الإغريقية وانتشارها في بحر ايجه والمتوسط "الاسكندرية وشمال إفريقيا"، والثاني يبدأ رأسا من أوروبا المعاصرة. وبين النصف الأول والثاني هناك ما يشبه الانقطاع التاريخي في التواصل الزمني بين الفترتين.

مثلا معظم كتب المؤرخين تبدأ قراءة الفلسفة من حضارة اليونان ومحيطها فتشير إلى كل تلك الاسماء المشهورة عالميا والمعروفة لكل دارس أو باحث في الفلسفة مثل فيثاغورس، هراقليطس، زينون، سقراط، افلاطون، أرسطو، افلوطين وتنتهي السلسلة في الشق الأول القديم عند أوغسطين الذي مزج الفلسفة بالفكر المسيحي في كتابه "مدينة الله".

توفي الفيلسوف أوغسطين في العام 430 ميلادي أي قبل 180 سنة من ظهور الدعوة الإسلامية في الجزيرة العربية. ومعه تنتهي حلقات السلسلة لتظهر مجددا في الشق الثاني الحديث وتحديدا مع القديس توما الاكويني الذي تأثر بدوره بالفلسفة الإسلامية وبدأ حياته المعرفية في قراءة الغزالي وابن رشد.

ولد الاكويني في العام 1225م "622 هـ" وتوفي في العام 1274م "672 هـ" وبه تبدأ السلسلة المعاصرة وصولا إلى عصرنا الحديث.

هذا التقسيم التاريخي يكشف عن خلل زمني في رصد تطور حلقات الفلسفة الأوروبية. فبين رحيل الفيلسوف المسيحي الأول "اوغسطين" ورحيل الفيلسوف المسيحي الثاني "الاكويني" 844 سنة وهي فترة ممتدة على قرون ولا يمكن ان تكون مرت من دون ثمار فكرية "فلسفية" ظهرت في امكنة وجغرافيات وحضارات أخرى.

هذه الفجوة الزمنية التي تتجاهلها الكتب التي تؤرخ لتطور سلسلة الفلسفة الأوروبية احتلها الإسلام وقادها المسلمون من المشرق إلى المغرب ومن غرب الصين إلى جنوب فرنسا وجنوب ايطاليا وشرق أوروبا. وتجاهل هذه الفترة يكشف عن وجود نزعة تقودها عقدة التفوق وإقصاء الآخر انطلاقا من مقاييس معاصرة للمقارنة بين التقدم والتخلف.

توجد إذا حلقة مفقودة في سلسلة تاريخ تطور الفلسفة الأوروبية. فالمؤرخون ينطلقون من الفلسفة الإغريقية في شقيها اليوناني والتركي ثم ينتقلون من حضارات بحر ايجه ويربطونها بحضارات شرق البحر المتوسط ومدرسة الاسكندرية وشمال إفريقيا قديما. بعدها تختفي سلسلة التطور لتعود مجددا للظهور في العصر الحديث وتحديدا مع بدء الاكتشافات الجغرافية في مطلع القرن الخامس عشر.

هناك دائما حلقة مفقودة في سلسلة تطور الفلسفة الأوروبية وهي تلك المتصلة بظهور الحضارة الإسلامية ونمو قوتها الثقافية وقيادتها للتطور العالمي على امتداد ثمانية قرون متواصلة.

إقصاء الحضارة الإسلامية من التطور البشري في كتابات بعض المؤرخين الأوروبيين يفسر وجود هذه الفجوة الزمنية بين فترة من التطور الفلسفي ثم انقطاعه ثم عودته للظهور مجددا في أوروبا.

تغييب الدور الإسلامي في تطور الفلسفة الأوروبية مسألة لا يتفق عليها معظم المؤرخين الأوروبيين. بعض الاتجاهات "الاستشراقية تحديدا" أعطت حصة للمسلمين في حفظ تراث أوروبا اليوناني "الإغريقي عموما" بسبب حركة النقل والترجمة التي قام بها المسلمون منذ الصدر الأول للدولة الأموية وصولا إلى الصدر الأول للدولة العباسية. وبعض تلك الاتجاهات يقصر دور المسلمين على النقل والترجمة، فهم برأي هذا الفريق مجرد جسر تاريخي عبرت عليه أوروبا بين محطة قديمة ومحطة جديدة.

القليل من المؤرخين والفلاسفة الأوروبيين يعترف بدور إيجابي "إضافي" قدمه المسلمون للفكر "الفلسفة" الأوروبي.

هذا التغييب لدور المسلمين في تطور الفلسفة الأوروبية هو أقرب إلى الإقصاء. وفي أفضل حالاته هو محاولة إبعاد الفلسفة الإسلامية عن دائرة شعاع حركة التنوير في أوروبا الحديثة بقصد نقلها من المتن إلى الهامش. ولاشك في ان مثل هذا النوع من التأريخ المبتور له صلة بالسياسة أحيانا وله اتصال بنزعة التفوق الأوروبية أو ما يسمى، في لغة علم الاجتماع الاقتصادي، دول المركز المتطورة ودول الاطراف المتخلفة. والتخلف برأي هذه المجموعة من المؤرخين لا يمكن ان ينتج فلسفة متقدمة تردف "المتفوق" ببعض الأفكار التي تسعف على النهضة والتطور.

مثلا حين أرخ داني كولينسون للفلسفة الأوروبية في كتاب حمل عنوان: "أعظم 50 فيلسوفا" حذف من تاريخه كل الفلاسفة المسلمين واتى على ذكر الفيلسوف اليهودي موسى بن ميمون فقط. لم يقدم الكاتب أي تبرير أو تفسير لفعلته على رغم انه يعترف ان ابن ميمون تأثر بالفلسفة الإسلامية وتحديدا بكتابات ابن سينا وابن رشد.

هذا النوع من الإقصاء للفلسفة الإسلامية وتأثيرها في صنع الفكر الأوروبي المعاصر والحديث هو مجرد مثال على الكثير من محاولات تغييب دور المسلمين وتأثيرهم على تطور مختلف حقول العلوم والمعرفة من طب وهندسة وعمران.

المسئولية هنا لا تقع على بعض تيارات الحداثة الأوروبية ونظرة بعض المؤرخين الأوروبيين الاستعلائية على المسلمين والعرب. فهذه المسئولية واضحة في تلك الكتابات التي تتجاهل دور المسلمين والعرب في تطور الحضارة الإنسانية. المسئولية أيضا تتحملها وأحيانا تتقاسمها بعض تيارات "الحداثة" العربية التي تجهل تاريخها وتتجاهله مع أنظمة عربية احتكرت السلطة والمعرفة وأدارت ظهرها للعرب باسم التغريب

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 1064 - الخميس 04 أغسطس 2005م الموافق 28 جمادى الآخرة 1426هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً