العدد 1075 - الإثنين 15 أغسطس 2005م الموافق 10 رجب 1426هـ

الديموقراطيا ... الديموقراطيا

ابراهيم عباس نتو comments [at] alwasatnews.com

"الديموقراطيا" هي مفردة يونانية مركبة من مقطعين أصلهما "من الناحية اللغوية" كلمتان مستقلتان: "ديموس"، وتعني "الناس"؛ ومع لفظة "ديموس" جاءت مفردات "الشعب"، "الجمهور". .. بل وأخذت تشمل "الرعاع"، "عامة الناس"، أو كما نقول في العربية "الدهماء". أما الجزء الثاني من الكلمة "كراتيا" قراطيا، فيعني "السلطة". وهنا أقدم - لو سمح لي القارئ - حاشية عن لفظة "ديموقراطيا" ذاتها كما استعملها أنا هنا بالياء والألف في آخرها، بدلا من التاء المربوطة في الهجاء المتداول، فإني أفضل أن تأتي نهايتها بالياء والألف، متوازية في ذلك مع استعمالنا لألفاظ مشابهة ومألوفة جدا، مثل: "جغرافيا"، "جيولوجيا"، "سسيولوجيا" إلخ؛ وبالتالي، فأرى أن تستعمل لفظة "الديموقراطية" "بالتاء المربوطة" فقط في حالة صفة الموصوف: كما في "النظم الديموقراطية"، "الطبقات الجيولوجية"، أو "الكشوف الجغرافية"..

وأخذا في الاعتبار مصادر اللفظة وموئلها، سواء في الوضع "الإغريقي/ اليوناني" أو فيما تطورت إليه فيما بعد، مارة بالفكر البريطاني ثم بالثورة الفرنسية وما تلاهما، فإنه يلزم التوضيح بأنه بينما ينحو مبدأ وفكرة ومصطلح "الديموقراطيا" نحو فكرة الناس و"الشعب". وبالتالي فكرة "حكم الشعب للشعب"، إلا إنه للأمانة التاريخية/ الفكرية يلزم الإشارة إلى أن "معنى" "الشعب". كان قد تدرج وتطور عبر العصور؛ ففي الأصول اليونانية كان مفهوم "الشعب" محدودا... بل وللأسف كان مقتصرا على فئة "أو "طبقة"" من الناس إذ كان "الأحرار" "الذين أشير إليهم أيضا بلفظة "المواطنين"" بينهم نسبة محدودة قد لا تزيد على 10 في المئة، بينما كان بقية الناس في رق أو فيما يشبهه. بل كان الطامة الكبرى أن "غالبية الناس" كانوا مسخرين للأعمال البدنية التي كان الخاصة يأنفون أداءها، بينما في الوقت نفسه كان "واجب" الدفاع عن الوطن منوطا بتلك "الأغلبية" المسحوقة، مفروضا عليها وبلا أية حقوق مدنية!

ولكن، ولحسن الطالع، كان من جملة تطورات الحركات الدستورية البريطانية "منذ الماقنا كارتا" وبعد نتائج الثورة الفرنسية، أن أعيدت بلورة فكرة مفهوم الديموقراطيا بشكل متطور وراق. فمن تأثيرات الثورة الفرنسية أن اكتسبت فكرة الديموقراطيا مبدأ المساواة في الحقوق السياسية والاجتماعية والاقتصادية لجميع المواطنين، والرقابة على الحكومة عن طريق هيئة نيابية يشترك في انتخاب أعضائها كل البالغين من أفراد الشعب على أساس النظرية القائلة بـ "صوت واحد للشخص الواحد؛ وأن من حق الشعب في أن يشرع لجميع أمور العامة بغالبية أصوات نوابه. ويرى الباحث محمد أسد "في كتابه: منهاج الإسلام في الحكم، تعريب منصور محمد ماضي. بيروت: دار العلم للملايين، ط ،6 1983م، ص 47-49" أن "الديموقراطيا الغربية السائدة اليوم هي في الواقع أكثر قربا وأوثق نسبا بتصور الإسلام للحرية منها بتصور الإغريق القدامى، ذلك بأن الإسلام ينادي بأن الناس جميعا متساوون من الناحية الاجتماعية؛ ولهذا، فلابد أن يعطوا فرصا متساوية كذلك للتطور وللتعبير عن إرادتهم".

وطبعا، فإن مجرد استعمال وتداول كلمة "الديموقراطيا" لا يكفي؛ ومجرد نطقها واستعمالها كمفردة لا يسمن ولا يغني؛ بل قد نجد أن إطلاق واستعمال لفظة "الديموقراطيا" في عدد من الأحوال، في بعض البلدان، يصل بنا إلى مستوى نضطر معه إلى الابتسام مثل: جمهورية الكونغو "الديموقراطية"؛ جمهورية كوريا "الديموقراطية". "وقبل إعادة توحيد الألمانيتين: جمهورية المانيا "الديموقراطية""

الديموقراطيا ركيزة "الشأن العام": فالديموقراطيا في القطاع العام تعني أن الحكومة تستمد سلطاتها - بصفة عامة لكنها أصيلة - من الشعب، إذ يقوم نوابه بالدفاع عن مصالح الأمة قصيرة المدى وطويلها، وحيث الناس هم مصدر الشرعية، فيقوم "ممثلوهم" "النواب" بالمشاركة في وضع القرارات، وسن القوانين، وإبرام المعاهدات أو "التصديق" عليها... بعد قيام "السلطة التنفيذية" في الدولة بإتمام مراحل "المفاوضات".

فالناس في النظم الديمقراطية سيكونون مسئولين عن مصيرهم، وسيجدون أنفسهم شركاء في إقرار قراراتهم وذلك بتكاتف مكونات المجتمع المختلفة في القيام بذلك، بما فيها الطبقة الوسطى التي هي العصب الاقتصادي والمالي في البلاد... ومعها الطبقات الفقيرة والطبقات العليا؛ وتحتاج إلى "مؤسسات المجتمع المدني" الواعية النشطة الواعية.

وفي الديموقراطيا يتجلى التعاون، وتبرز الفائدة المشتركة، وينخرط السواد الأعظم من الناس في خضم العمل الاجتماعي، وكل يؤدي دوره، وكل يسهم بسهمه ويدلو بدلوه. وتكون نتيجة هذا التعاون في شكل: "كسب + كسب"... بدلا من التسلط من جهة والتناحر من جهات فلا يكسب هذا ولا ذاك، بل حينها يخسر الجمع ويولون الدبر. وفي الديموقراطيا، وفي العمليات الديمقراطية لوضع القرارات، تخرج الأطراف جميعها شاعرة بأنها "كسبانة"، بل منتصرة، وذلك حينما تلاحظ الأطراف المتعاونة والمتعاركة أن "الديموقراطيا" تقود إلى النتائج وإلى الإنتاجية وإلى الاعتدال، وأن معها يأتي "القسطاس".

ومن المقومات الأساسية هنا: تعددية المشارب والمذاهب والأفكار، بل والمصالح؛ وفي هذا يأتي "التمكين" المناسب لنصف المجتمع - المرأة، بمشاركتها المشاركة الفاعلة والكاملة في مختلف المجالات والاتجاهات؛ والانخراط في "ديومقراطية التعليم والتدريب"؛ وحقوق الإنسان كافة؛ وتنمية وتنشيط فئات "المجتمع المدني". فهذه هي "المكونات" الأساسية للمشاركة الديمقراطية... و كل جهة تلعب دورها المطلوب والضروري لتحقيق المصالح الخاصة لكل فئة... ومعها يأتي تحقيق "المصلحة العامة".

ولتحقيق الديموقراطيا في المجتمع عموما، نحتاج إلى إقرار "سيادة القانون" وأن القانون فوق الجميع، ويطبق على الجميع، ويساوي بين الجميع. وتطبيق الديموقراطيا يحتاج إلى: الأمن الشخصي والوظيفي المعاشي، وإلى التعليم، وإلى التنمية الاقتصادية... وبالتالي إلى نماء "طبقة وسطى". ومن المقومات الأساسية للديموقراطيا: الفصل بين السلطات "التنفيذية والتشريعية والقضائية"؛ حماية حقوق الأقليات؛ حق الفئات العاملة للمطالبة بحقوقها؛ حرية التعبير عموما بتمكين إقامة تنظيمات ومنابر التعبير والمطالبات السياسية. وغني عن القول بأن الديموقراطيا تتطلب حرية وخصخصة الصحافة والشفافية، ومقاومة الفساد.

توطين الفكر الديمقراطي أثناء تنشئة لأجيال: "الديموقراطيا " مفهوم وفكرة غير متجذرة لا في الفكر العربي ولا في نظم الحكم والإدارة العربية؛ فعلينا أن نسعى إلى توطين المفردة وترسيخ مفهومها، وأن نعمل على تربية النشء على مبادئ وتطبيقات "التعايش"، وتوليفهم على النمط "التشاوري" في كل عمليات "حل المشكلات"، وأن نقوم بتدريبهم على مبادئ وخطوات "المشاركة" في عمليات وضع القرار، وذلك منذ "نعومة أظفارهم"، ومنذ بدايات سني دراساتهم، بل... وفي البيت أصلا وبداية.

ومن أمثلة ما يمكن عمله لتنشئة أولادنا وبناتنا ولو على بعض مقدمات الديموقراطيا وممارساتها، ما يشمل تعليم وتدريب التلاميذ منذ المراحل المنزلية والمدرسية الأولى... على عدد من "المهارات الاجتماعية" الضرورية مثل: 1: الوقوف في طابور... وانتظار كل منا دوره، وتحاشي التعدي بالتقدم على الآخرين الواقفين في الطابور نفسه ؛ 2: التدرب بانتظام على تقاسم الأشياء، وقبول كل شخص القسط الذي قنن له؛ 3: تقديم العون والمساعدة للآخرين وبطريقة سـباقة واستباقية؛ 4: تبادل التحية اليومية... ومختلف المناسبات، الشخصية والعائلية والوطنية والإنسانية العالمية؛ 5: توليف أولادنا على استعمال الألفاظ الجميلة والمهذبة... وقول "شكرا" والعرفان بالجميل؛ ولفظة "عفوا" حين اقتراف أي خطأ؛ وعلى انسيابية التهذب عند طلب شيء، مثل "من فضلك" أو ما يشابهها ولو بكلمات اخف وأسرع مثل: "تعيش"، أو حتى "تـكفأ""= ستكافأ، سيكافئك الله"؛ وليكن ذلك أو مثله بديلا عما أسمعه مثلا في مطاعمنا في الخليج، إذ نسمع الرجل أو المرأة يناديان النادل أو النادلة بعجرفة... ويتبعونها بالطلب في صيغة "هات!" أو "عطـني!" "= أعطني"، بدلا من: "من فضلك". 6: التدرب على اتباع الإرشادات المرورية... وقواعد السلامة، بما يشمل حقوق الآخرين، كحق مرور المشاة، وحق المرور للطرف الآخر؛ 7: التمرن على تقبل الإخفاق في تحقيق هدف حرصنا عليه ذاتيا... وعلى تلقي "الهزيمة" بروح رياضية... سواء أثناء المباريات أو في غيرها من المنافسات؛ 8: التدرب - وخصوصا مع وجود القدوة - على الإكثار من استعمال "نحن"، أكثر من "أنا"؛ 9: تحاشي رفع الصوت على الآخرين؛ 10: الإكثار من استعمال الألعاب والتمارين التي تحتاج إلى العمل التعاوني "وتكوين "الفريق""... أكثر من التركيز على الألعاب "الفردية"؛ 11: التدريب على طرائق فن "بدء" المحادثة وأخذ المبادرة للتخاطب مع الآخرين؛ 12: محاولة التدرب على الابتسام... وإفشاء السلام... وليس الاقتصار على اللفظ ومجرد الكلام!

وتبقى العدالة "ضالة" ومطلب المواطن... في كل مكان، وخصوصا في الدول النامية والمتخلفة. وتبقى العدالة من أساس أساسيات الديموقراطيا، إذ ينبغي أن يكون القانون الجيد "اسمها"، القضاء العادل المستقل "عنوانها"، ومقايضة - وتوازن - "الحقوق" بـ"الواجبات" ديدنها. فالديموقراطيا مشوار كفاحي كبير يحتاج إلى الصبر والمصابرة... من المحكوم والحاكم؛ فالناس شركاء في الوصول إلى قراراتهم وفي تقرير مصائرهم.

كما يبقى القول إن الديموقراطيا نظام له نواقصه ومثالبه؛ لكن - وكما نوه ذات مرة رئيس وزراء بريطانيا السابق تشرشل - فإن النظم البديلة أسوأ بكثير! وعندما نقوم باحترام فكرة ولفظة "الناس"، كونها المصدر اللفظي لـ "الديموقراطيا "، فعلينا احترام "الناس" في مجالات وممارسات التعامل التطبيقي السلوكي أيضا.

وبعد، وكما جاء في أبيات نظمتها ذات مرة: والناس مهما غاب طاغ أو أتى فهم الأساس على الدوام يقينا!

* كاتب سعود

العدد 1075 - الإثنين 15 أغسطس 2005م الموافق 10 رجب 1426هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً