مع القفزة الكبيرة التي شهدتها أسعار النفط الخام، لتصل إلى مستويات قياسية، عادت كبرى الدول المستهلكة للطاقة إلى حديث صريح تارة ومستتر تارة أخرى عن ضرورة تشجيع التنقيب عن النفط وإنتاجه من مناطق غير تقليدية، خصوصا في غرب إفريقيا وبحر قزوين.
لكن هذه المحاولات ليس بوسعها أن تنال في المستقبل المنظور من المكانة التي يحتلها النفط العربي، خصوصا في منطقة الخليج، في ضوء تزايد حجم احتياطيها ليصل إلى ما يربو على 578 مليار برميل ليشكل 45,6 مما يمتلكه العالم بأسره من هذه السلعة الاستراتيجية، فضلا عن أن نفط الخليج يتمتع بأمن نسبي مقارنة بنظيره في مناطق شتى.
وعلى رغم أن الولايات المتحدة تسعى، خصوصا منذ حوادث الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول ،2001 إلى أن تتحرر من النفط الأجنبي، وهناك فعلا مشروع قدمه الرئيس الاميركي جورج بوش في هذا الصدد، إلا أنها لم تصل حتى الآن إلى خطة كاملة تؤكد إمكان الوصول إلى هذا التحرر، بما يعني تقليصها لاستيراد نحو 60 في المئة من احتياجاتها النفطية من الخارج، بواقع 12 مليون برميل يوميا، في حين لا يزيد إنتاجها المحلي عن 8 ملايين برميل يوميا، طبقا لإحصاءات العام .2001
ويعكس رئيس شركة التمويل النفطي الأميركية روبنسون ويست هذا الوضع بجلاء حين يقول "لا يمكننا الاستغناء عن النفط السعودي... هذا خيار لا يمكن تحديه ولا يمكن لسياستنا أن تسعى إلى استبدال السعودية بروسيا مثلا... فالسعودية هي الضامن الأخير والبنك المركزي لسوق النفط الذي يوفر السيولة والتأمين في الأوقات العصيبة".
ويضيف روبنسون أن العالم سيحتاج إلى أكثر مما يلبيه النفط الروسي ونفط غرب إفريقيا وبحر قزوين وأميركا اللاتينية وأوروبا... وقال إنها لحقيقة مؤلمة للأميركيين أن الشرق الأوسط عموما، والمملكة العربية السعودية خصوصا، كانا وسيظلان دعامة أسواق النفط طالما ظل العالم الصناعي يعتمد على مورد الطاقة هذا".
وجاء مسئول أميركي آخر، وهو القائم بأعمال نائب مساعد وزير الطاقة جون برودمان، ليؤكد الأمر نفسه، حين قال إن بلاده على رغم أنها تنظر إلى صادرات إفريقيا من النفط الخام على أنها وسيلة أساسية لتقليل الاعتماد على منطقة الشرق الأوسط، فإن إفريقيا لن تحل أبدا محل الشرق الأوسط بصورة كاملة.
وتنبع اعترافات هذين المسئولين الأميركيين من إدراكهما أن منطقة الخليج العربي تحوي في جوفها أكثر من نصف الاحتياطي العالمي المؤكد من النفط الخام، الذي لايزال على رغم ما قطع من شوط على طريق إيجاد بدائل طاقة أخرى وتعزز دور الاقتصاد الرقمي أو "الاقتصاد الناعم"، يشكل عصب اقتصاد الدول الصناعية الكبرى، خصوصا الولايات المتحدة الأميركية. ويزداد الاحتياطي النفطي العربي عموما يوما بعد يوم، فقد ارتفع من 50 مليار برميل العام 1950 إلى 120 مليار برميل العام ،1960 ثم تضاعف إلى 250 مليار العام ،1970 وزاد إلى 370 مليار العام ،1980 وإلى 650 مليار برميل العام ،1990 ثم بلغ 700 مليار العام ،1993 وإلى 800 مليار العام .2000
يذكر أن هناك أربع دول عربية يتجاوز الاحتياطي النفطي لكل منها 100 مليار برميل أو يقترب منها وهي: السعودية والعراق والإمارات العربية المتحدة والكويت، بل إن الاحتياطي السعودي بمفرده يصل إلى نحو 277 مليار برميل، ليساوي بذلك أكثر من ثلاثة أمثال الاحتياطي النفطي لدى الولايات المتحدة والمكسيك مجتمعتين، وأكثر من أربعة أمثال احتياطي فنزويلا، إحدى أهم البلدان المصدرة للنفط بالنسبة للولايات المتحدة، وأيضا أكثر من أربعة أمثال الاحتياطي النفطي لروسيا ودول أوروبا الشرقية معا.
وما يسترعى الانتباه أن أية زيادة مهمة في الطلب العالمي على النفط يلبيها النفط العربي... فحين زاد الطلب العالمي في الفترة من 1973 حتى 1979 بمقدار 6,7 ملايين برميل يوميا فإن نصيب النفط العربي من سد هذا الطلب كان حوالي 4 ملايين برميل يوميا.
وحين زاد الطلب مرة أخرى في الفترة من 1986 إلى 1993 بحوالي 8,4 ملايين برميل يوميا أمن العرب 4,4 ملايين برميل لسده.
وهذا الوضع قاد إلى اعتماد عالمي ملموس على النفط العربي كمصدر مهم للطاقة، والدليل على ذلك أنه حين انقطعت الإمدادات النفطية العراقية جراء الغزو العراقي للكويت ونشوب حرب الخليج الثانية لجأت الدول الكبرى المستهلكة للطاقة إلى دول عربية خليجية لتعويض النقص الذي طرأ على حجم المعروض النفطى. وتمتلك الدول العربية نحو 80 في المئة من صادرات الدول الأعضاء في منظمة الدول المصدرة للنفط "أوبك" مجتمعة... أما الدول الإسلامية، أي بإضافة إندونيسيا، فهي التي تتحكم في غالبية إنتاج المنظمة، لا ينقصها في هذا إلا ما تنتجه فنزويلا ونيجيريا، التي يشكل المسلمون جزءا مهما من سكانها.
وإذا كانت الدول المنتجة للنفط خارج أوبك تنتج كمية من النفط أكبر من تلك التي تنتجها دول المنظمة، فإن الأخيرة تصدر الجزء الأكبر من إنتاجها، ولا تبقي لاستهلاكها المحلي إلا كميات قليلة مقارنة بتلك التي تدفع بها إلى سوق النفط الدولية، وذلك على العكس من الأولى التي تستهلك أكبرها كل ما تنتجه من نفط مثل الولايات المتحدة أو جزءا كبيرا منه مثل روسيا، فضلا عن ذلك فإن بعض هذه الدول تنتمي إلى العالمين العربي والإسلامي، وإن كانت ليست أعضاء في أوبك، مثل مصر وسلطنة عمان والبحرين وبروناي، علاوة على السودان واليمن وسورية، وهي دول بدأت تنتج النفط في السنوات الأخيرة بكميات تتصاعد مع مرور الوقت.
وهناك دراسات جيولوجية تبين وجود كميات نفطية على الساحل المغربي المواجه للمحيط الأطلسي، في كل من المغرب وموريتانيا.
وتزداد أهمية منطقة الخليج العربي بالنظر إلى ما تمتلكه من احتياطات ضخمة من الغاز الطبيعي، فبها دولتان هما إيران وقطر، تحتلان المركزين الثاني والثالث في هذا المضمار على مستوى العالم أجمع.
كما أن غالبية دول المنطقة تعزز سنة تلو الأخرى حجم احتياطياتها من الغاز، الأمر الذي انعكس على نسبة التغير بين عامي 1999 و،2000 إذ بلغ 6,4 في المئة في المملكة العربية السعودية، و3 في المئة في سلطنة عمان، و3,2 في المئة في قطر. وعند المقارنة بين العامين 1996 و2005 سنجد أن هذه النسبة ستزيد إلى أكثر من ذلك، وإذا كانت الاحتياطيات العراقية من الغاز تتراجع، فإن هذا قد يكون مرده بالأساس إلى الظروف القاسية التي يعيشها العراق حاليا، ومن المتوقع أن يعاود العراق الاهتمام بقطاع الغاز، حال تغير هذه الظروف، ما يعني حصوله على مزيد من الاحتياطيات.
وعلى رغم أن سيلا من التحليلات العربية وغيرها تحدثت مبكرا عن نضوب النفط أو انتهاء "السكرة النفطية" ومرحلة "ما بعد النفط"، فإن المؤشرات الواقعية تبرهن على أن النفط سيظل مصدرا مهما للحصول على الطاقة على مدار عقود عدة مقبلة. فإذا كان هناك حديث طويل ومتكرر عن موارد الطاقة البديلة فإن هذه البدائل لاتزال ضعيفة لأنها غير اقتصادية وغير فعالة أو أنها غير آمنة وغير ملائمة.
فالفحم الذي يستهلك العالم منه يوميا ما يزيد على ما يمنحه 44 مليون برميل من النفط هو مصدر للطاقة غير فعال، فضلا عن كونه ضارا بالبيئة .
والطاقة النووية التي يستهلك العالم منها يوميا ما يزيد على ما يعطيه 7 ملايين برميل نفط، هي مصدر للطاقة غير آمن ، في حين أن البدائل الأخرى للطاقة المتجددة سواء كانت شمسية أم مائية وهوائية، والتي يستهلك العالم منها ما يربو على ما يكافئ 13 مليون برميل نفط يوميا، غير اقتصادية وتطويرها يلاقي صعوبات جمة. وحتى لو تمكن العلماء من تطوير بدائل عدة للطاقة فإن الرجوع إليها سيظل دائما موجودا في ضوء نضوب بعض الموارد الطبيعية للطاقة من جهة، وتنامي استهلاك الطاقة من جهة ثانية.
فالتقديرات تشير إلى أن الطلب العالمي على النفط سيزداد خلال السنوات المقبلة، ليرتفع من 77 مليون برميل يوميا العام 2000 إلى 112,8 مليون برميل يوميا العام ،2020 أي بزيادة نسبتها 46,5 في المئة تقريبا عما هو عليه الآن.
وفي الوقت ذاته من المتوقع أن يرتفع الطلب العالمي على الغاز الطبيعي من 5,2 تريليونات متر مكعب العام 2000 إلى 7,4 تريليونات متر مكعب العام ،2020 أي بنسبة زيادة تصل إلى 88 في المئة.
وتوقع ارتفاع الطلب على النفط خلال العقود المقبلة يزيد من أهمية منطقة الخليج العربي مستقبلا، ما يجعل الدول الكبرى معنية تماما بضمان تدفق النفط بانتظام من هذه المنطقة، مادامت الحاجة إليه ستزداد، وهذا يفرض عليها حماية النفط الخليجي من أي تهديد.
وقد ظهر هذا الأمر تماما حين أقدم الاتحاد السوفياتي السابق على غزو أفغانستان، فوقتها سارعت الولايات المتحدة إلى بناء استراتيجية تحول دون وصول موسكو إلى المياه الدافئة في بحر العرب، معتبرة أن هذا الغزو يشكل محاولة من قبل الاتحاد السوفياتي للاستيلاء على نفط الخليج العربي في النهاية.
وتكرر المشهد، بصورة مغايرة، إثر الاجتياح العراقي للكويت فوقتها تخوفت الولايات المتحدة وحلفاؤها من أن يطمع العراق في الاستيلاء على الجزء الأكبر من نفط الخليج، ما يعني تحكمه في حركة الأسعار من جهة، وتوفيره فرصة لموسكو كي تدس أنفها في صفقات الطاقة من جهة ثانية، وذلك في ضوء التقارب المستمر بين موسكو وبغداد. ومن ثم قادت الولايات المتحدة التحالف الدولي الذي خاض حرب الخليج الثانية ضد العراق، على رغم أن الأخير تعهد لواشنطن أنه سيضمن تدفق النفط إلى السوق الدولية بما يقيها من حدوث هوة بين الطلب والعرض، وبذلك يحفظ للأسعار توازنها.
علاوة على ذلك تبقى شبكات نقل النفط والغاز في دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية، هي الأكثر أمنا مقارنة بغيرها من الدول المصدرة للطاقة، خصوصا دول منطقة بحر قزوين.
وهذا الوضع يضيف ميزة نسبية إلى نفط الخليج إلى جانب الجودة وثراء المكونات وانخفاض كلفة الإنتاج وغزارة الاحتياطات، ولذلك يمنح، على وجه الخصوص، دول مجلس التعاون المصدرة للنفط فرصا متلاحقة لجني أي ارتفاع يطرأ على أسعار النفط في السوق العالمية حال مهاجمة أي آبار أو منشآت نفطية في منطقة بحر قزوين أو غيرها، بالنظر إلى الحساسية المفرطة للسوق حيال مختلف المجريات السياسية والاقتصادية.
كما أن الانسياق وراء فكرة تمتع النفط الأفريقي بأمان نسبي، يبدو من قبيل التفاؤل المفرط وليس حقيقة واقعية. فدول غرب إفريقيا تعاني من انقسامات عرقية وقبلية وخلافات دينية ومشكلات حدودية وصراعات داخلية مع الأنظمة الحاكمة، تجعل من الصعب عليها أن تحظى بهذا الأمان المفترض.
وإذا كانت وسائط نقل النفط من هذه المنطقة تستمد أمانها من كونها تنطلق في البحار المفتوحة ولا تمر عبر مضايق، فإن المنشآت النفطية ذاتها عرضة لهجمات خلال أي اضطرابات تشهدها دول غرب القارة، كما أن الإمدادات النفطية ذاتها من الممكن أن تتوقف أثناء وقوع هذه الاضطرابات. علاوة على إمكان تعرض الأنابيب النفطية المنتشرة في بعض دول القارة لهجمات، مثل ما يحدث في نيجيريا، أو بالنسبة إلى الأنبوب المزمع إنشاؤه لنقل النفط من جنوب تشاد إلى ميناء دوالا الكاميروني الواقع على خليج غينيا، المتصل بالمحيط الأطلسي، والذي يبلغ طوله 1070 كيلومترا، وتصل كلفته إلى 4 مليارات دولار، أو الأنابيب التي تنقل النفط الأنجولي إلى موانئ التصدير على المحيط الأطلسي.
ومن هنا، فإن ما يدور في الغرب حاليا من حديث عن تهميش النفط العربي توطئة للاستغناء عنه مستقبلا، نظرا إلى عدم أمان الإمدادات هو أمر لا يستند إلى الحقيقة أو الواقع، لا من حيث تجربة العالم الصناعي مع الدول العربية، أو من حيث أمان الدول المنتجة الجديدة، اللهم إلا إذا كان هناك مخطط مبيت لإدراج منطقة الشرق الأوسط في سلسلة من الحروب والصراعات المستمرة لسنوات طويلة.
وحتى في هذه الحال فإن الدول الكبرى وفي مقدمتها الولايات المتحدة، ستحاول أن تنأى بالنفط العربي، والخليجي منه على وجه الخصوص، عن دائرة مثل هذه الصراعات من خلال حمايته مباشرة، الأمر الذي يستشف مما طرح بشأن النفط العراقي، إذ قامت الولايات المتحدة فور غزوها العراق بالسيطرة على الآبار النفطية في جنوب البلاد وشمالها، حتى تضمن استمرار ضخ النفط من هناك
العدد 1082 - الإثنين 22 أغسطس 2005م الموافق 17 رجب 1426هـ