العدد 1107 - الجمعة 16 سبتمبر 2005م الموافق 12 شعبان 1426هـ

أحبُّوا... فعمَّروا في الحياة

الحب بصيرة لك ولو عُدِمتَ البصر، تظل على هدْيه تبصر ما لا يبصره أصحاب النظر، فيما هم مرضى السريرة والطوية. والحب مفتاح رئيسي لأبواب تظل موصدة، وتظن أن رؤيتها مشرعة ضرب من «تهاويم»، وجنوح، وأحلام يقظة. وبالحب وحده، استطاع الأنبياء والمصلحون والأحرار أن يُسقطوا كل ضراوة... ضراوة القتلة والجبابرة والأفّاقين ومحترفي الخراب بنفح من نفحاته: كلمة طيبة لا تصدر إلا ممن امتلأ بالطمأنينة والحب والأمل في أن تُرى الحياة بصورتها التي أرادها الله يوم أن تصدّى الإنسان لحمل أمانتها.

وحتى الذين يُظن أنهم خسروا معاركهم في طريق الله والإنسانية والعدل والخير، وهم يفيضون بالحب،إنما يرسمون بما تركوا نهجا يضمن استمرارية الحياة، اذ برحيلهم استتبّت ضمانة حضور من يحمل غيضا من فيض حبهم، فيمشي به في الناس مواجهة وكسرا للنقيض له من الإحن والبغضاء والحقد الذي كتب الله أن يظل باقيا في نفوس بعض البشر ما بقي الليل والنهار، في موقف مباهلة القيم الرفيعة والنبيلة أمام الساقط والرخيص مما عداها من قيم.

لكأنه يأخذك بأجنحة لا حصر لها محلقا ولو كنت عاجزا عن الإيماء بيديك، لكأنه يصلك بكل ما هو عال وسام، بحيث تكون جزءا منه، وفيك بعض من صوره ومضامينه، ويتكشف لك المغيّب والموارى وما هو بموارى، إنما وارته طبقة سميكة من معدن الشرور والنزوع الى كل ما يخرج الإنسان من طبيعته الإنسانية وينحرف به عن فطرته السليمة.

رؤية تستدعي رؤية، ذلك ما يمنحك إياه الحب... نفاذ لا يصمد أمامه المنطق المادي.

كان القطب الصوفي عمر السهرَوَرْدي في مجلسه فأنشد:

ما في الصحاب أخو وجْد تطارحه

إلا محبٌّ له في الركب محبوب

وكرره فلم يتأت له إكماله، فقام شاب وأنشد:

كأنما يوسفٌ في كل راحلة

له وفي كل بيت منه يعقوبُ

فصاح القطب، ونزل من على المنبر، وقصد الشاب فلم يجده، ووجد مكانه حفرة فيها دم!

قصيرة هي الحياة حين نرهقها بالحقد والكراهية. وطويلة، رحبة معمّرة حين نتيح لها هواء وفضاء الغامر من صباحات الحب وضوئه ووضوئه. ومعمّرون أولئك الذين غادروا أمكنتهم والحياة، وقد اشاعوا في دنيا الناس بعضا مما جعلهم معمّرين في القلوب قبل الأمكنة، بما افاضوا عليها من حب. ويظلون كبار أنفس... كبار مواقف... وكبار صنيع، قبل أن يكونوا كبار سنوات تساقطت من روزنامات حيواتهم، مثلا حاضرا يستعصي على النسيان مهما أوتي ذلك النسيان من مواهب.

«الحياة طلقة من ذهب» على حد تعبير الشاعر والروائي الكردي سليم بركات، ولن تكون كذلك ما لم يلِ الطلقة تلك ما يدل على نفيس معدنها، وأصيل منبتها، ورحابة وطهر محتدها، بالخيّر من المعاني والمضامين التي يراكمها البشر في دنياهم وحيواتهم تلك، وكل خيّر هو بعض من أثر الحب ودالّ عليه.

الوفاء والإيثار بعض من صنيع الحب، ولا يتأتيان إلا بتمكنه وحضوره وشياعه في النفس بحيث يظلان سمة وملمحا لحقيقة بلوغه واستوائه واحاطته بصاحبه.

ذكر ابن أبي الأزهر، قال: حدّثني أبوسهل الرازي، عمّن حدّثه، عن الواقدي قال: كان لي صديقان، أحدهما هاشمي، وكنا كنفس واحدة، فنالتني ضيقة شديدة، وحضر العيد، فقالت امرأتي: أما نحن في أنفسنا فنصبر على البؤس والشدّة، وأما صبياننا هؤلاء فقد قطّعوا قلبي رحمة لهم، لأنهم يرون صبيان الجيران قد تزينوا في عيدهم وأصلحوا ثيابهم، وهم على هذه الحال من الثياب الرثة، فلو احتلت بشيء تصرفه في كسوتهم.

قال: فكتبت الى صديقي الهاشمي أسأله التوسعة عليّ لما حضر، فوجّه اليّ كيسا مختوما ذكر أن فيه ألف درهم، فما استقر قراري حتى كتب اليّ الصديق الآخر يشكو مثل ما شكوت الى صاحبي، فوجهت اليه الكيس بحاله.

وخرجت الى المسجد فأقمت فيه ليلي مستحييا من امرأتي، فلما دخلت عليها استحسنتْ ما كان مني، ولم تعنّفني عليه، فبينا أنا كذلك اذ وافى صديقي الهاشمي ومعه الكيس كهيئته، فقال لي: أصدقني عمّا فعلته فيما وجهت اليك، فعرّفته الخبر على وجهه.

فقال: إنك وجهّت اليّ وما أملك على الأرض إلا ما بعثت به اليك، وكتبت الى صديقنا أسأله المواساة فوجّه بكيسي بخاتمي.

قال: فتواسينا الألف ثلاثا بعد أن أخرجنا الى المرأة قبل ذلك مئة درهم، ونمى الخبر الى المأمون، فدعاني فشرحت له الخبر، فأمر لنا بسبعة آلاف دينار، لكل واحد ألفا دينار، وللمرأة ألف دينار.

«جعلوا الحب أعمى، لأنّ له عينين أفضل من عيوننا»

جان جاك روسو

أول النص

يا ليتني أجمع قلوب الناس

أشباه والضد من ضده

واحبك بها بدون اقياس

لين العمر ينتهي حدّه

يا زين ما في البعاد اوناس

ان كان لي كفك تمدّه

نايف صقر

العدد 1107 - الجمعة 16 سبتمبر 2005م الموافق 12 شعبان 1426هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً