العدد 2427 - الثلثاء 28 أبريل 2009م الموافق 03 جمادى الأولى 1430هـ

... ما بعد «انفلونزا الخنازير»

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

الهبّة الدولية التي شهدها العالم ردا على اجتياح وباء «انفلونزا الخنازير» أطلقت إشارات باتجاه نمو المشاعر الإنسانية المشتركة في مواجهة خطر يهدد كل الدول والشعوب. فهذه الهبّة ليست استثنائية ولكنها تشكل درجة في تطور الوعي التعاوني الذي يؤشر إلى احتمال حصول نهضة ثقافية في هذا الإطار الجمعي الذي يضع الناس في قارب واحد من دون تمييز بين الألوان والأجناس واللغات والديانات.

مسألة التعاون الدولي لمكافحة مخاطر وبائية مشتركة تشبه إلى حدّ كبير مسألة التدخل حين استفاقت الدول فجأة تحت وقع ضربات الأزمة النقدية التي عصفت بالمصارف والبورصات والأسواق والشركات بدءا من 14 سبتمبر/ أيلول 2008.

العاصفة المالية تقارب في جانبها النظري والعملي هذه الريح المرضية التي أخذت بالانتقال بسرعة قياسية بين بلد وآخر ومن قارة إلى أخرى. فالعاصفة أعادت للدولة موقعها المركزي في إدارة السوق وتنظيمها ومنع انفلاتها، كما أنها أعطت للفكرة التدخلية قيمتها الاقتصادية بعد أن كادت تغيب عن مسرح «الرأسمالية المتوحشة».

أزمة النقد العالمية صنعت في أسابيع قليلة مجموعة تدابير عملية أكدت أهمية التعاون الدولي لاحتواء عناصر التفجر (قمة دول العشرين مثلا) وجددت الثقة بالكثير من الأطراف التي كانت مهملة في الحسابات العامة للدول الرأسمالية الكبرى. ونجحت الأزمة النقدية في إحباط القراءات التي بالغت في الرهان على آليات السوق وتكفل تلك الآليات عفويا في اختراع الحلول من دون تعاون أو تدخل أو حماية. كذلك نجحت الأزمة في كسر الاحتكار والتفرد ونزعة الانفراد بالقيادة من دون شريك أو وسيط.

عاصفة النقد كانت سلبية وسيئة وكارثية في الكثير من الحقول (تراجع النمو، ارتفاع البطالة، إفلاس شركات ومصارف، تقلص التوظيفات والاستثمارات، تدني الأجور، جمود الأسواق وحركة التبادل والتجارة) ولكنها أعطت مفاعيل إيجابية في الكثير من الجوانب السياسية (كسر احتكار الحلول، المشاركة، التعاون، التدخل، التعددية الدولية، التعارف) ما يؤشر إلى احتمال تطور بعض المفاهيم الإنسانية نحو مزيد من الحمائية المشتركة والانفتاح والتبادل والاحترام.

الجانب الإيجابي في عاصفة النقد يمكن أن يتجدد في إطار ريح «انفلونزا الخنازير» لتتشكل منه رؤية دولية يرجح أن تعزز أفكار الوقائية والتعاون والتعارف والتبادل والمشاركة الدولية للسيطرة على مخاطر مشتركة تهدد البشرية من دون تمييز طبقي أو لوني أو جنسي أو ديني.

العودة إلى «التوحد» والاجتماع الإنساني تحتاج دائما إلى هزة. وهذا الأمر الطبيعي بحاجة إلى ضربات غير طبيعية حتى يستعيد الإنسان ذاكرته ويجددها في ضوء المصائب والكوارث والنكبات. والارتباط الشرطي بين الفعل وردة الفعل شكل دائما نواة الانتباه وساهم أحيانا في النمو والتطور واكتشاف أهمية الآخر ودور التعاون للاحتواء والسيطرة. وهذا الارتباط الشرطي بين الخسارة والربح لعب دوره التاريخي في تعديل الكثير من الموازين حين اكتسب الإنسان من الكوارث خصائص معرفية أملتها عليه الضرورة أو الحاجة وفرضت عليه التحرك والتجاوب مع المتطلبات والتحديات.

ردة الفعل الدولية على اجتياح «انفلونزا الطيور» ثم «انفلونزا الخنازير» أعادت تذكير البشرية بأن العالم الكبير في لحظات السكون يتحول إلى كرة صغيرة في فترات الاضطراب. وهذا الجديد ليس جديدا في التاريخ الإنساني.


طاعون القرن الرابع عشر

في القرن الرابع عشر الميلادي ضرب البشرية مرض الطاعون واجتاح أوروبا والعالم العربي - الإسلامي وشعوب البحر المتوسط. وكانت السفينة ناقلة المرض من ميناء إلى آخر. فالسفن تتلقى البضاعة من أوروبا إلى آسيا ومن آسيا إلى أوروبا عن «طريق الحرير» والوسيط المسلم الذي يشرف على تنظيم النقل وترتيبه وحمايته وتسهيل مروره إلى الموانئ والشواطئ.

«العولمة» في القرن الرابع عشر كانت تعتمد على «طريق الحرير» والتجارة البحرية وساهمت في نقل الأمراض إلى جانب البضاعة والثقافة والاحتكاك الحضاري والتعارف. وأدت هذه «العولمة» إلى توليد شرارات التقدم والتنافس والتعاون إلى أن كان «قرن الطاعون» الذي جرف معه ربع سكان العالم القديم. إلا أن البشرية بعد ذاك القرن شهدت قفزة نوعية في التطور العلمي وانتبهت سياسيا إلى أهمية «الدولة» ودورها التدخلي في التنظيم والحماية.

ردة الفعل على التحدي (الوجودي) اختصر المسافات الجغرافية ومساحات الزمن. وأدى تجاوب أوروبا العقلاني مع استفزاز المرض إلى إنتاج قارة جديدة في وعيها وتعاملها مع كارثة إنسانية. فأوروبا في القرن الخامس عشر ستبدأ خطوتها التاريخية الكبرى في النمو والتطور والتقدم على مختلف المستويات (اكتشافات جغرافية، البحث عن خطوط تجارة بديلة) بعد أن نجحت علميا في القضاء على مرض الطاعون.

أوروبا بعد تجاوزها كارثة الطاعون ستتحول خطوة خطوة إلى قارة جديدة بينما العالم العربي - الإسلامي الذي كان متقدما على حضارات ذاك الزمن سيصاب بالجمود أو النمو السلحفاتي بعد أن ضربه ذاك المرض وهزّ أركانه من المغرب إلى المشرق.

آنذاك عايش ابن خلدون انتشار الطاعون في المغرب وكتب عنه ووصفه بالموت الجارف الذي قضى على أعز أصحابه وشقيقه وشيوخه وأساتذته، ودرس معه الكثير من الحواضر والصناعات والقرى والمهن والزراعات. عشرات الصفحات كتبها ابن خلدون في تاريخه وسيرته عن الكوارث التي أنتجها الطاعون حين انتشر وانتقل جارفا معه نخبة القضاة والفلاسفة ورجال الدولة والمؤسسات ما أدى إلى موات الزرع والضرع واستسلمت الجماعات إلى الهلاك الجمعي من دون مقارعة أو مقاومة.

الأوصاف التي سجلها ابن خلدون أتى على ذكرها بشكل متطابق ابن كثير في تاريخه. فالمؤرخ الدمشقي سرد عشرات القصص المشابهة في المشرق العربي وذكر في صفحات تاريخه الواقعات متحسرا على آلاف الضحايا التي قضى عليها الطاعون. فالمرض في المشرق كان مشابها لذاك في المغرب إذ رحل مئات رجال الدولة وكبار المفكرين والقضاة والشيوخ والأساتذة والعلماء لتدبر مع نهاية الطاعون حضارة وتنهض مكانها حضارة.

القرن الرابع عشر كان زمن الطاعون وفي نهايته أخذ العالم الإسلامي يتراجع في السباق الحضاري مقابل تقدم العالم الأوروبي في إطار تداول قيادة القاطرة الإنسانية. فهذا المرض كان إشارة للبدء في التحول من الشرق إلى الغرب بسبب اختلاف الاستجابة للتحدي الذي طرحه الطاعون في مواجهة البشر. أوروبا تعاملت علميا مع الكارثة ونجحت في السيطرة عليها وتطويعها واحتواء تفاعلاتها وامتداداتها ما مهّد الطريق أمامها لدخول الدولة في عصرها الحديث في مختلف مجالاتها العمرانية والمعرفية. العالم العربي - الإسلامي أصيب بالصدمة الكبرى وذهل أمام هول الكارثة التي وصفها ابن خلدون غربا وابن كثير شرقا ما أدى إلى نوع من الاستسلام والتسليم.

اختلاف الاستجابتين على العدو المرضي المشترك أسّس قاعدة ثنائية بين الشرق والغرب لايزال العالم يعاني منها حتى الآن. الآن عاد التحدي من جديد في أنواعه وأشكاله المختلفة وهذا الأمر يدفع بالاستجابة إلى طور متقدم في التعامل مع المشترك الإنساني.

الأزمات العالمية تشكل مناسبة زمنية للدخول في سياق إطاري مضاد للمرحلة السابقة. «الطاعون» في القرن الرابع عشر لعب دوره المرضي في كسر التوازن الحضاري وتأسيس قاعدة ثنائية بين الشرق والغرب ما أعطى فرصة نجاح لأوروبا في الدخول إلى تاريخها الحديث. فهل تشكل كوارث ونكبات وأمراض القرن الجاري مناسبة زمنية لإعادة تأسيس قاعدة الشراكة الدولية والدخول في عصر التعددية والتعاون والتعارف والاعتراف بالآخر حتى يتشكل العالم على هيئة جديدة تكسر الاحتكار وتمنع دولة معينة من التفرد بمصير البشرية؟

التاريخ يحتمل الكثير من القراءات والإشارات إلا أن الشواهد تؤكد أن التحدي يولد استجابة... والهبّة الدولية التي شهدها العالم ردا على وباء «انفلونزا الخنازير» ترجح أن نمو التعاون الإنساني على قاعدة التعددية والشراكة سيكون هو الطرف الغالب في المعادلة المقبلة.

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 2427 - الثلثاء 28 أبريل 2009م الموافق 03 جمادى الأولى 1430هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً