تحل ذكرى استشهاد أمير المؤمنين على بن أبي طالب هذه الأيام، مجددة العهد والولاء بين المسلمين، بكل طوائفهم، مع هذا الرمز العظيم، ولتعيد إلى الحاضر تحديثا لقضية تاريخية لاتزال ماثلة في الأذهان بكل مأسويتها وفضيلتها وعظمتها وبركاتها في هذا الشهر العظيم. "وليد الكعبة"، هي صفحة يومية سترافقكم - أعزاءنا القراء - طوال الأيام الثلاثة للذكرى، لنعالج فيها بعض ما تيسر من قضايا نحتاج إلى طرحها على هامش هذه الذكرى الأليمة، ونستبدل نمطية الإحياء بالاقتراب بما يحيط بنا من مخاطر في حياتنا اليوم. في حلقة اليوم، سنتناول منهج هذا الرمز، كمنطلق للوحدة بين أفراد المجتمع الإسلامي بكل طوائفهم، في وقت نتجرع فيه مرارات ونتألم من جروح اثخنت جسد هذا المجتمع... فمن الطائفية الى الإرهاب إلى التكفير والقتل... إلى الصراع بين بني الإسلام فيما العدو يتفرج مسرورا. لقد شاعت بين المصلحين ودعاة الوحدة كلمات مثل: الوحدة الإسلامية أو الاتحاد الإسلامي والأمة الواحدة الإسلامية أو الجماعة الإسلامية، والأخوة الإسلامية أو التآلف بين المسلمين والتقريب بين المذاهب الإسلامية. وهذه الكلمات والتعابير - مع الاعتراف باشتراكها في المغزى والهدف وهو تقارب المسلمين وتآلفهم - إذا تأملنا فيها، وأعطيناها حقها من الدقة والاعتبار فلكل منها مفهوم خاص يختلف عن غيره بقليل أو كثير. فالوحدة الإسلامية، أو الاتحاد الاسلامي عبارة عن وحدة كلمة الأمة تجاه قضاياها الأساسية وأهدافها المشتركة ووقوفها صفا واحدا أمام الأعداء، وهي الغاية القصوى للمصلحين في العالم الإسلامي، ومنهم من انتهج فلسفة الإمام علي في هذا المسار.
علي مع الحق والحق مع علي
يتفق الكثير من الباحثين الإسلاميين على أن الإمام عليا "ع"، كما قال عنه الرسول المصطفى "ص": "علي مع الحق، يسير معه حينما سار"، شخصية جسدت الكثير من المبادئ التي كانت أحدث من عصرها في وقتها! فعبقرية الإمام علي وضعت الأسس لبناء مجتمع إسلامي يحمل في جوهره أمة واحدة، ويحسن التعبير عنها بالقومية الإسلامية... وطن واحد، ونظام قائم بذاته تحت قيادة واحدة، وثقافة ملموسة، وتقاليد مرسومة، مصدرها الكتاب والسنة.
اجتمعت الطوائف على حب علي
ينقلنا خطيب جامع أبي بكر الصديق الشيخ علي مطر، "عالم دين ونائب في المجلس النيابي" إلى مساحة عميقة في فهم شخصية الإمام علي، فيقول: اجتمعت الطوائف على حب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وتقديره واحترامه وتبجيله، ولم لا يحظى بهذا الحب والرسول الكريم "ص"، قال له: "إنه لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق"، فكان رضي الله عنه يخاطب الذهب والفضة قائلا:
يا صفراء يا بيضاء غري غيري
وكان يبكي في الليل بكاء الحزين ويقول: يا دنيا يا دنيا أبي تعرضت أم لي تشوقت، هيهات هيهات غري غيري قد طلقتك ثلاثا لا رجعة فيك. فعمرك قصير وعيشك حقير وخطرك كبير... آه من قلة الزاد وبعد السفر ووحشة الطريق. فعندما نتطرق إلى سيرة هؤلاء العظماء من الصحابة، وأهل بيت النبوة، وكيف عاشوا متحابين متعاونين وكيف تحملوا ما تحملوه في سبيل هذا الدين وإعلاء كلمة التوحيد ورفع راية الإسلام... فعندما نتطرق إلى سيرتهم العطرة فإننا نذكر أنفسنا بواجب غفل عنه كثير من المسلمين ألا وهو الوحدة والاتفاق ونبذ الفرقة والاختلاف والبعد عن الأسباب كل الأسباب التي تعكر الصفو وتشق الصف وتمزق الشمل. فنحن في حاجة ماسة الى التعايش بسلام وفي حاجة إلى تبادل الاحترام لنبني وطننا بلبنات الحب والتعاون والألفة والانسجام، فالرب واحد والنبي واحد والقبلة واحدة والهدف واحد والعدو واحد، فبالتعايش والوحدة نبني ونعمر ونطور وبالفرقة نهدم ونرجع إلى الوراء... يقول الله تعالى: "ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم" "الأنفال: 46".
الكلام عن علم هاشمي
ويواصل الشيخ علي مطر حديثه فيقول: عندما يأتي ذكر أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب الهاشمي القرشي العدناني فإننا نتكلم عن أحد أعلام بني هاشم ابن عم النبي "ص"، أسلم رضي الله عنه في صباه وهو دون العاشرة من عمره المبارك فحديثنا عن أبي الحسن يفيض بالنبل والعظمة، كيف لا وهو احد العشرة المبشرين بالجنة وزوج فاطمة الزهراء ووالد كل من الحسن والحسين سيدي شباب أهل الجنة أول فدائي في الإسلام وشهد المشاهد كلها مع رسول الله "ص". قال له الرسول "ص": "أنت مني وأنا منك"، وقال عمر رضي الله عنه: "توفي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو عنه راض". خرج رسول الله "ص" في إحدى الغزوات وأمر عليا رضي الله عنه أن يبقى في المدينة، فقال علي: "يا رسول الله، تخلفني مع النساء والصبيان"، فقال له: أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبوة بعدي". كان رضي الله عنه صاحب علم غزير انتهت إليه الفتيا في زمانه وما ينازعه فيها أحد، فهو عالم قريش وسيد بني هاشم بلا منازع... قال عمر رضي الله عنه: "علي أقضانا"، وكان معاوية يرسل رسائل إلى علي يسأله عن مسائل الميراث وغيرها.
الوحدة كمفهوم قرآني
ونطق الكتاب والسنة بالوحدة ودعوا إليها وأكدا توثيقها، قال تعالى: "إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون" "الأنبياء: 92"، وفي آية أخرى: "وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون" "المؤمنون: 52" فقد خاطب الله المسلمين بأنهم أمة واحدة في ظل ربوبية الله التي تلزمهم عبادته وتقواه، بأن هذه الأمة قوامها الإيمان بالله والتسليم له. وهناك من المفسرين من وجه الخطاب إلى الأنبياء المذكورين قبله، ففهم من الآيتين أن منهج الأنبياء واحد، وهو الإيمان بربوبيته والتسليم لطاعته، وهي تعبير عن وحدة الأديان السماوية الشاملة للمسلمين وغيرهم من أهل الكتاب، فهي وحدة أوسع من وحدة الأمة الإسلامية. ويذكر أن الأمة والإمام من مادة واحدة، قوامها الاتباع، فبينها نوع من التلازم والمناسبة فالإمام من له أتباع، والأمة هي الجماعة التي تتبع إماما، فالجماعة المتشتتة الأهواء، التي ليس لها إمام تنقاد له لا يقال لها "أمة". ومن هذا المنطلق تختص هذه الكلمة بأهل الأديان والنحل فأتباع كل نبي أمة برأسها كأمة موسى، وأمة عيسى، وأمة محمد صلوات الله عليهم.
رمز للإسلام والمسلمين
ولحديث فضيلة الشيخ عبدالرحمن عبدالسلام، لون خاص، فهو شخصية دينية ثقافية اجتماعية معروفة في المجتمع البحريني، وهو من الناس الذين ينادون بالوحدة ممارسة وتطبيقا، وحين يتحدث عن صاحب هذه الذكرى يقول: الإمام علي بن ابي طالب هو رمز للإسلام ولجميع المسلمين وهو من أعظم الرموز التي يكن كل من يشهد بألا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله الحب والمودة، فاستشهاده هذا فوز له بالجنة وخيبة وخسران للجاني... ومن دبر هذه الجريمة، ولاشك في أن الاستشهاد هو أعلى مراتب الإيمان وأجمل ما يتمناه المؤمن ولا يناله كل أحد إلا من اصطفاهم الله سبحانه وتعالى واختارهم ليكونوا شهداء... فالأمة الإسلامية كلها تدين بالولاء لهذا الإمام العظيم والخليفة الراشدي الرابع. ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يجمع المسلمين المؤمنين المحبين للنبي "ص" ولعلي وللصحابة الأخيار في مستقر رحمته وعند حوض رسوله وفي الجنة وفي الفردوس الأعلى، ونسأل الله أن يجمع المسلمين على كلمة سواء وأن يوحد صفوفهم ويلم شعثهم ويوحد كلمتهم، إنه سميع مجيب الدعاء. ونحن نعيش هذه الذكرى، أجد أنه من المهم أن نختار بدقة الموضوعات التي يستحسن أن تثار في الخطب والمنتديات والمحاضرات وهي التي تقوم على توحيد المسلمين وتقريبهم وتؤلف قلوبهم وتدني من وجهات النظر وتقوي الصف، ثم إن الغلواء أو الغلو في الرأي، ما هو الا من المخاطر التي تمزق الأمة... وما هذه الأمة؟ هي التي بعث الله سبحانه وتعالى خير نبي بل أعظم نبي لها، لذلك فهي أعظم أمة، فلا يبعث الله سبحانه وتعالى أفضل نبي لأفسد أمة! هذه الأمة التي لم تبدل كتابه ولم تغيره، هل يمكن أن تكون الأمة التي تحمل كتاب الله، هي أفسد أمة وفيها أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا؟ فأمتنا هي أمة سطرت في التاريخ سطورا لا تمحى، ولذلك، ونحن نعيش ذكرى استشهاد أمير المؤمنين علي بن ابي طالب، لابد أن نستذكر المواقف التي جعلت من أولئك السابقين دعامات لنشر الإسلام على وجه الأرض لنسمع نداء الحق... اليوم، وبحسب رأيي، حري أن نؤلف القلوب بما جمع الله سبحانه وتعالى أول هذه الأمة.
بحث القضايا الاجتماعية المعاصرة
ويتطلع فضيلة الشيخ حميد الشملان، إلى زاوية أخرى مرتبطة بهذه الذكرى، فهو يلفت الانتباه الى أنه من الأهمية بمكان بحث القضايا الاجتماعية المعاصرة وهموم المجتمع لمعالجتها ضمن النشاط الموسمي السنوي في هذه المناسبة. إن ذكرى استشهاد أمير المؤمنين عليه السلام، تتطلب توظيفا يقوم على أسس سليمة، فأنا من الناس الذين يتمنون توظيف كل الأجهزة الإعلامية مرئية ومسموعة ومقروءة لنشر مفهوم العلم والحرية وحرية التعبير وحقوق الإنسان لدى أمير المؤمنين "ع"، ثم نريد أن نلقي الضوء، وليت الاخوة الأفاضل من الخطباء يوافقونني القول، في معالجة موضوع الاختصام، واستحضار منهج الإمام علي "ع" في معاملة خصومه كالخوارج مثلا، وسوق القضية في إطار بحثي للخروج بفهم معقول لهذا المنهج المتقدم. ودعني أذكركم بتلك القصة المشهورة للمرأة التي اتخذت موقفا من الإمام علي وكان يجلس في بيتها مع أطفالها وحال سؤاله عن زوجها أخبرته بأنه استشهد مع علي بن ابي طالب، وكانت تشكو الحال وتغلظ في القول على الإمام وما كانت تعرفه. وفي الأثناء، اتفق مع المرأة لأن تجلس هي مع الأطفال ويتولى عليه السلام طهو الطعام، فتخيل أن يكون أمير المؤمنين، يمتزج مع عامة الناس ليأتي بهذه المبادرة الإنسانية الراقية، ولننظر أيضا إلى قصته مع القائم على بيت المال حينما كان يرافقه في السوق فرأى نصرانيا يتسول وحينما سأل الإمام صاحب بيت المال عن هذا الرجل وعن عطائه أخبره بأنه رجل ليس بمسلم، وهنا وضع الإمام "ع" هذه القاعدة العظيمة وهي أنه في دولة الإسلام لا يوجد مسلم ومسيحي في حق العيش والعطاء. هنا بيت القصيد، فالكل يؤكد - في الختام - المسئولية الموكلة للجميع... فعلى الآباء والأمهات في بيوتهم، وعلى المعلمين والشيوخ في مدارسهم وكتابهم، وعلى الأساتذة في صفوفهم الجامعية، وعلى الخطباء والأئمة من على منابرهم وفي فترات مواعظهم، وعلى الكتاب والباحثين والمؤرخين والأدباء فيما يكتبون ويبحثون وعلى الفنانين فيما يرسمون ويخلقون، وعلى الشعراء فيما ينشدون من الشعر والأناشيد جميعا، تنمية هذا الإحساس الطيب والعاطفة الإسلامية بما عندهم من الصناعة بتذكر رموز الأمة العظيمة، واستلهام الدروس والعبر منها، لبناء مجتمع الإسلام المتكاتف المتحاب
العدد 1143 - السبت 22 أكتوبر 2005م الموافق 19 رمضان 1426هـ