العدد 1193 - الأحد 11 ديسمبر 2005م الموافق 10 ذي القعدة 1426هـ

شكراً على هذا العار...!

محمد طاهر العصفور comments [at] alwasatnews.com

-

مقبرة جماعية. .. مقبرة جماعية... مقبرة جماعية، عبارة باتت مألوفة إلى حد الملل، عبارة مفجعة ومن حجم الفجيعة، وتكرارها تمل من الاشمئزاز، والسؤال هل ناضلت الأحزاب التي وصفت بالتقدمية والتنوير والنهضوية، وما إلى ذلك من مصطلحات، من أجل أن تختم نضالها من أجل الوصول إلى الحكم بسلاسل من المقابر الجماعية؟ ليس مستغرباً أن ترتكب قوات الاحتلال الاسرائيلي مجزرة والمجزرة تلد أخرى إلى ان يصير كل تاريخ الاحتلال مجازر متناثرة على وجه الوطن، وليس غريباً أن تعتقل وترتهن قوات الاحتلال الإسرائيلي الفلسطينيين واللبنانيين والعرب في معتقلاتها، لأنها باختصار العدو الهمجي الذي لا يستقيم مشروعه الا بمحو كل شيء من أجل قتل التاريخ وإنشاء تاريخه هو، لكن أن تكون المقبرة الجماعية صناعة وطنية وقومية، صناعة محلية، صناعة الأيدي التي عهد اليها حفظ الأمن والاستقرار وترسيخ السلم الأهلي والمساعدة على بناء الدولة، مقبرة جماعية في ظل «معاهدة اخوة وتكامل»، أليس هذا غريباً، أليس هذا يجعل المرء يكفر بكل شيء سمعه وتعلمه عن «التقدمية والثورية الساعية الى بناء الأوطان على أسس حديثة؟»، أليس هذا يجعلنا نسأل الذين قتلونا كذباً في الاستعداد للمعركة الفاصلة أين أصبحت القضية القومية؟ البعث في العراق انتهى نظامه إلى سلسلة من المقابر الجماعية، هذه المقابر التي غيب فيها الأبناء، ونامت الأمهات مئات الليالي على غصة الانتظار، وحسرة الشوق تلهب أحشاءهن، وغيب فيها الآباء الذين انكسر أطفالهم صبحية كل عيد وصبحية كل يوم لأنهم لم يشعروا بحنان الآباء، وغيب فيها الأزواج الذين ذبلت أزاهير زوجاتهم في انتظار السراب. البعث في سورية الذي أرخى ظلاله لعقود ثلاثة على لبنان انتهى إلى مقابر جماعية، الآن ولغاية كتابة هذه السطور اكتشفت ثلاث منها، فكم من مركز للاستخبارات السورية كان في لبنان، وكم منها وجد بالقرب من منها مقبرة جماعية؟ في لبنان مقابر جماعية صناعة اسرائيلية، وفي لبنان مقابر جماعية صناعة سورية، وفي لبنان مقابر جماعية صناعة فرنسية وفي لبنان مقابر جماعية صناعة عثمانية، وفي لبنان مقابر جماعية صنعتها «نيوجرسي» الأميركية. من مر على لبنان ولم يترك لنا مقبرة جماعية؟ لا أدري ماذا نقول عن عشرات القصائد التي كتبت تمجد «الصمود القومي» في مواجهة العدوان، ولا أدري ماذا نقول عن عشرات الكتب التي صدرت عن «الدور القومي في ترسيخ السلم الأهلي في لبنان»، ولا ندري ماذا نقول عن آلاف البيانات التي أطنب أصحابها في ذكر المآثر السامية لأصحاب الفكر القومي الذين يعملون من أجل «تقدم هذه الأمة». كل هذا المديح انتهى الى مقبرة جماعية، أي كان كذبة أطول من أطول فيلم درامي هندي، وبالتالي عشنا واحدة من أكثر الاكاذيب غرابة. لن نسأل كيف أغمضت الأمهات عيونهن طوال ليالي السنوات الماضية، لأنهن باختصار لم تغمض لهن عيون، هنا أتذكر حادثة أم أحد المعتقلين اللبنانيين في معتقل بلدة الخيام اللبنانية الجنوبية. فحين اعتقلت عصابة العملاء في جنوب لبنان الشاب حسان قعفراني في منتصف ثمانينات القرن الماضي، كانت والدته طوال فترة اعتقاله تنام على الأرض العارية الا من البلاط، تنام على البلاط شتاء وصيفاً، في بلدة الشتاء فيها من القسوة الى حد يتجمد الماء في الصنابير، وكانت حين تسأل عن السبب تقول: «كيف تريدون مني أن أنام على الفراش المريح وفلذة كبدي ينام على الأرض في زنزانة المعتقل؟»، أم حسان وحسان لم يشعرا بأي ندم من ذلك لأنهما كانا يؤمنان بأن عذابهما هو من أجل حرية وطنهما، من أجل مقاومة العدو الاسرائيلي. ماذا عن أمهات وأبناء وزوجات الذين غيبوا في معتقلات الاستخبارات السورية في لبنان، لا يهم الى أي تنظيم انتموا، ولا يهم أكانوا من هذا الفريق أم ذاك، إذ طالما ان العلاقة السورية ـ اللبنانية كانت خاضعة للمواثيق والاتفاقات والمعاهدات، وطالما ان الدور العسكري السوري في لبنان كان لحفظ أمن هذا البلد، فلماذا لم يحاكم هؤلاء أمام المحاكم اللبنانية، ومن استحق منهم الاعدام حكم عليه بالاعدام ونفذ الحكم فيه، أما ان يقتلوا في ليل ويدفنوا في ليل، يصار إلى تجهيل مصيرهم طوال كل تلك السنوات، فهذا يعني ان القضية لم تكن أبداً قضية حفظ الأمن وترسيخ الاستقرار، ففي لبنان تغيرت التحالفات السورية مرات عدة، في العام 1967 عندما تدخلت القوات السورية في لبنان كانت على عداء مع أحزاب الحركة الوطنية، وفي العام 1987 تغيرت التحالفات وأصبحت على عداء مع أحزاب الجبهة اللبنانية، والسؤال: كم من الذين غيبوا من أحزاب الحركة الوطنية وأحزاب الجبهة اللبنانية في المقابر الجماعية المعلنة الآن أو تلك التي ستكتشف في الأيام المقبلة؟ لا أدري ماذا سأقول لابني عندما يسألني من لعب دوراً قومياً وطنياً في لبنان لمجابهة المؤامرة التي حيكت ضد هذا البلد؟ من لعب بمن، من لعب على من، من الذي مات مجاناً ومن الذي كان موته ثمنا للحرية، من هو العدو، من هو الحليف، من... من... من...؟ أليس عاراً ان ينتهي كل ذلك الى مقبرة جماعية تكون صناعة محلية وطنية قومية، وفي ماذا ستفرق عن المجزرة الاسرائيلية والمقبرة الجماعية المصنوعة بأيد اسرائيلية؟ من لديه بعض الجرأة في قول الحقيقة عليه ان يجيب، هل نقول شكراً على هذا العار، نحن الشعب اللبناني الذي عملت كل السكاكين في رقابنا

العدد 1193 - الأحد 11 ديسمبر 2005م الموافق 10 ذي القعدة 1426هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً