العدد 1209 - الثلثاء 27 ديسمبر 2005م الموافق 26 ذي القعدة 1426هـ

إنقاذ ما يمكن إنقاذه...

صلاح الدين حافظ comments [at] alwasatnews.com

لم يشأ هذا العام الكبيس أن يودعنا بعد ساعات، قبل أن يترك قنبلة متفجرة في أحضاننا، إذ كيف يلوي عنقه إلى الخلف من دون وداع يحمل مزيداً من الأزمات الصعبة، وهي أزمات تحتاج إلى معجزة أسطورية لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، من بين هذا الركام المتفحم المصبوغ بعبثية فوضوية تثير الأسى، وبلادة سياسية يعجز عن وصفها اللسان الزرب، فإذا ما اخترنا نموذجاً لكل ذلك، فإننا سنختار فوراً الأزمة السورية اللبنانية، الممتدة بلهيبها اللافح إلى المدار العربي كله، ثم إلى المدار الدولي باتساعه وتنوع قواه. وقد شهدت الأسابيع الأخيرة من ذلك العام الكبيس، تصاعداً سيئاً في هذه الأزمة، صاحبه هبوط متدن في لغة الحوار المتبادل، على ألسنة بعض السياسيين وعلى صفحات الصحف وشاشات التلفاز، بما يشي بأن الأزمة ليست وشيكة الرسو على شواطئ التهدئة والتصالح. تدخلت أطراف كثيرة، وتداخلت مصالح عديدة، وتقاطعت سياسات، لكن الأمر فيما نعتقد يتطلب تدخل طرف قوي من أهل الحي، يملك الرغبة والقدرة على تخفيف حدة توتر الأزمة المتصاعدة، وبالتالي يملك أدوات التأثير على طرفيها الرئيسيين، بعيداً بقدر الامكان عن ضغوط القوى الأجنبية، أو حتى مراوغة لها. ندعي أن مصر تحديداً قد تكون هي الطرف العربي القادر في هذه اللحظة على التدخل، وخصوصاً أنها تتمتع بعلاقات وثيقة مع الطرفين المتنازعين، سورية ولبنان، وليس لها خلفية من الخلاف أو الصراع مع أي منهما، ولا تسعى إلى اغتصاب دور أحد، أو التحيز لهذا على حساب ذاك. نلمح جهوداً مصرية تجرى في مسالك هادئة من العمل الدبلوماسي والاتصال المباشر بدمشق وبيروت، وبعواصم فاعلة أخرى، تستكشف طريقاً للخروج بعمل تمهيدي، لإيقاف التدهور والتوقف خصوصاً عن الحرب الإعلامية والكلامية المشتعلة، على أمل الانتقال إلى مرحلة لاحقة توضع فيها عناصر الأزمة الثنائية على مائدة مشبعة بالمكاشفة والمصارحة، كما قال لي دبلوماسي مطلع. قلنا حسناً، ولكن لنجاح الدبلوماسية المصرية الهادئة شروط أساسية، أهمها أن يكون تدخلها، وهو المقبول نظريا من الطرفين، أكثر جرأة وأشد هجوماً وأعمق مواجهة، ليس بهدف ردع أحد، ولكن على الأقل بهدف المواجهة القوية لأسباب الأزمة، وتفكيك عناصر احتقانها، ثم تقديم مقترحات حلها على أمل،، ولا يهم هنا كثيراً التردد أمام من يدعي أن التدخل المصري هدفه استعادة الدور المفقود والمكانة المؤثرة في منطقة حيوية، كانت مصر قد تخلت عنها برغبتها أو رغما عن إرادتها خلال العقود الأخيرة، كما أنه لا يهم أيضاً زرع اليأس والإحباط مقدماً، بحجة أن اللاعب الرئيسي وهو أميركا، لن يسمح لمصر أو غيرها أن تلعب في هذا الملعب بعيداً عن شروطه وضوابطه، وذلك أن الاستسلام المطلق لمثل هذه الحجة، هو إعلان صريح بالوفاة والزوال، ولكن أحد شروط نجاح مثل هذا الدور المصري، سواء تم مباشرة، أو تم عبر الجامعة العربية وبتنسيق قوي مع الدول العربية الفاعلة، أن تراعي مصر الحساسيات السورية تحديداً من اللعب فيما تعتقد أنه مجالها الحيوي في لبنان، وأن تراعي أيضاً الدوافع الأميركية والفرنسية الشرسة الهادفة إلى استقطاع لبنان من إطاره الطبيعي وجواره الجغرافي وامتزاجه البشري عبر الحدود، وأن تراعي كذلك الإحساس اللبناني بالانحياز المصري إلى دمشق. ربما لا يكتب النجاح الكامل للدور المصري في تصفية غبار الأزمة السورية اللبنانية، إما لقصور ذاتي في الرغبة والقدرة، وإما لرفض أساساً من أحد الطرفين المختلفين، وإما، وهذا هو الأرجح لضغوط أميركية وأوروبية، لا تريد لمصر أو أي طرف عربي ، لعب دور توفيقي في هذه الأزمة لأنها في الأصل والأساس تريد مزيداً من إشعال الأزمة وتصعيدها لهدف لم يعد خافياً أو مكتوماً، لكن أن تقعد دولة مركزية ومهمة مثل مصر عاجزة عن التدخل بقوة في أزمة طاحنة، بين الشقيقين السوري واللبناني، وصلت إلى مزالق الإطاحة بهما معاً أو على الأقل بأحدهما، إنما يمثل خطيئة استراتيجية، لن يغفرها التاريخ لمصر صاحبة الدور والمكان والمكانة في التاريخ والجغرافيا العربية، حتى لو هاج وماج التيار غير العروبي المعادي للقومية المنكر للمصالح الاستراتيجية، الذي يتنامى في مصر لأسباب محلية عنصرية، أو تحت إغواء الدعاوى الأميركية والأمنيات الإسرائيلية. نعرف إذاً أن الأزمة السورية اللبنانية الراهنة، وليدة تراكمات كثيرة وأخطاء متبادلة، نشأت في الأصل عن اقتناع سياسي سوري بأن لبنان جزء من سورية الكبرى، انتزعه الاستعمار الأوروبي، وفق اتفاق «سايكس بيكو» الشهير، ومنحه استقلالاً، لكنه يظل في العقيدة السورية من سورية الأم، يقابله على النقيض اقتناع لبناني «بين غالبية اللبنانيين» بأن بلدهم دولة مستقلة ذات سيادة، نالت استقلالها في العام نفسه والشروط ذاتها التي نالت بها سورية استقلالها، لكن «روح الهيمنة» مازالت تحرك السياسة السورية فتدفع إلى الصدام، والدليل أن دمشق مازالت ترفض ترسيم الحدود بين البلدين، وترفض تبادل السفراء، والتعامل بتوازن العلاقات كقاعدة سارية في العالم،، نعرف ذلك كله وأكثر، وندرك طبيعة المخاوف السورية من أن يذهب لبنان بعيداً، ليصبح ممراً أو مقراً ضدها وخنجراً في خاصرتها، وخصوصاً مع وجود الوحش الإسرائيلي على حدود البلدين، وندرك أيضاً الحق اللبناني المشروع في التمتع بالاستقلال والسيادة ونموذج الحكم «الديمقراطي»، وطبيعة الحساسية اللبنانية من النفوذ السوري، وخصوصاً بعد أكثر من ربع قرن من الوجود العسكري السوري بما صاحبه من نفوذ سياسي واقتصادي في لبنان ترك جروحا كثيرة. لكننا ندرك أكثر أن عوامل إثارة مزيد من الحساسية وإذكاء الأزمة وإشعال نيران الخلاف والكراهية والثأر،،، تكمن بشكل أعمق وأوضح في دخول «إسرائيل» على الخط وبوحشية ظاهرة، ليس فقط بهدف ردع سورية وتحجيم دورها ونفوذها، ولكن أيضاً بسبب الأطماع الصهيونية القديمة والجديدة، في جنوب لبنان ومزارعه ومياهه... الأمر الذي يستدعى ضرورة تفكيك العلاقة المميزة بين سورية ولبنان كمبدأ بإضعافهما معاً. وبقدر وضوح الهدف الاستراتيجي الإسرائيلي في هذا المجال، بقدر افتضاح الدور الأميركي الفرنسي خصوصاً، ذلك الذي يعتبر سورية دولة مارقة من دول محور الشر، تفرض «استعمارها» على لبنان، والذي يعتبر لبنان دولة مختلفة عن إطارها الجغرافي والبشري والسياسي، «تماثل إسرائيل في هذه الصفات» ومن ثم فهو يريد لبنان قاعدة عربية للحضارة الغربية تماثل «إسرائيل» أيضاً في هذه المهمة، حتى لو كره أهلها اللبنانيون وجيرانها العرب،، وقد أدى الفشل السوري اللبناني، ومن خلفهما العجز العربي التاريخي، في صوغ علاقات أخوية متوازنة بين الدولتين السورية واللبنانية المستقلين، تراعى المصالح الاستراتيجية والأهداف المتبادلة، إلى نجاح الاختراق الإسرائيلي الغربي للحلقة الضعيفة في المنطقة، التي صارت أكثر ضعفاً واشد هزالاً، في ظل الممارسات الخاطئة والالتهابات المتوترة، وصولا لممارسة القتل والاغتيال للسياسيين والصحافيين، واستجلاباً للجنة التحقيق الدولية المعروفة، ولصدور قرارات متتالية من مجلس الأمن مثل القرارين ،1559 1636 الضاغطين على سورية، ناهيك عن القانون الأميركي بمعاقبة سورية. والخلاصة... أن الأزمة السورية اللبنانية أصبحت في موقع تقاطع وبين حصار النيران من كل جانب، والأزمة العراقية الملتهبة في ظل الاحتلال الانجلوأميركي شرقاً والصراع الإسرائيلي العربي الفلسطيني المتصاعد يومياً غرباً، بينما الدور الإيراني، حليف سورية الأول والأقوى، يناوش من بعيد دفاعاً عن مصالحه وحماية لأمنه في المواجهة العنيفة مع الغرب، بسبب مشروعه النووي، أما الدور العربي فهو على ما هو من وجل وعجز وتراجع عن كل المصالح والعلاقات والثوابت، تاركاً الشقيقين يتناطحان بقسوة في حلبة المصالح الدولية المختلفة. وفي حين يدفع البعض في لبنان وخارجه، إلى لتدويل الأزمة، بحجة استخلاص لبنان من القبضة السورية المهيمنة، فإن الأخطر هو طرح المعادلة الأسوأ القاتلة، اما لبنان واما سورية. اما الإطاحة بالرأس السورية الآن وفوراً، واما بقاء لبنان مرتعا للفوضى والعنف ومنعاً للإرهاب الآتي،، وهي معادلة ان كانت الأسوأ نظرياً فهي الأخطر عملياً، الأكثر استجابة للاتهام الشيطاني الصهيوني، المتلهف ليس فقط على نصف الرأس السورية، ولكن أيضاً على كسر سلاح المقاومة الوطنية اللبنانية، التي سبق أن كسرت أنفه وأجبرته على الانسحاب من جنوب لبنان مدحوراً مقهوراً. ولا شك أن القراءة الصحيحة لأسباب ومظاهر وتجليات الأزمة السورية اللبنانية المحتقنة بعنف، تدلنا على أن القصة كلها ليست محصورة في مظاهر الهيمنة السورية، ولا في عمليات الاغتيال المدانة، من رفيق الحريري إلى جبران تويني، ولا في الخلاف على ترسيم الحدود وتبادل السفراء فقط، ولكنها تدلنا أيضاً على أن هناك ما هو أعمق وأشرس، ونعني الأطماع الإسرائيلية وعودة النفوذ الاستعماري الأميركي الأوروبي، وكلاهما لا يريد سورية قوية ولا لبنان كذلك، ولكن يريدهما حجرين صغيرين، يدوران في الفلك الأوسع، فلك الشرق أوسطية الجديدة. وما يجري في العراق وفلسطين والخليج ووادي النيل من مصر شمالاً إلى السودان جنوباً، ليس بعيداً عن ذلك بل هو صلبه وأساسه، على رغم صرخات الصارخين بلا فعل أو حتى صدى، فالتواصل والتكامل بين جوبا السودانية جنوباً،ودهوك العراقية شمالا، قائم في طبيعة الازمة وتجلياتها المريبة، وفي أهداف إشعالها على الدوام، وليست الأزمة السورية اللبنانية سوى حلقة من هذه الحلقات الملتهبة، تجري مع غيرها إلى منحدر سحيق ما لم... نقول ما لم يدركه عمل عربي شجاع يقتحم النيران المشتعلة، مسلحاً برغبة قوية وقدرة ذاتية، يستطيع أن يضع نقطة على السطر. من هذا المنطلق «المتفائل» قلنا ان مصر مؤهلة للعب هذا الدور الذي أتاها الآن، ان هي همت وأمت ونفخت في الصور، لإنقاذ ما يمكن إنقاذه... لعل وعسى!!

خير الكلام

يقول أبوالعلاء المعري:

ملَّ المقام فكم أعاشر أمة

أمرت بغير صلاحها أمراءه

إقرأ أيضا لـ "صلاح الدين حافظ"

العدد 1209 - الثلثاء 27 ديسمبر 2005م الموافق 26 ذي القعدة 1426هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً