العدد 3006 - الأحد 28 نوفمبر 2010م الموافق 22 ذي الحجة 1431هـ

ويش لك بالعراق وأهواله ورزق الله على السيف!

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

كثيراً ما أُوَاجَه بهذا السؤال: لماذا كلُّ هذا النَّقد لنوري المالكي؟ وعادة أيضاً ما أجِيب أنني لا أنقده لذاته (مع تهانينا له لتكليفه تشكيل الحكومة لولاية ثانية) وإنما هي ملاحظات أصلاً على شكل الدولة العراقية ما بعد الاحتلال، ولتجربتها وفِعْلِها السياسي والاجتماعي والحقوقي. كتبتُ عن علاّوي ناقداً، وعن العيساوي والهيتي، وعن الحكيم والصّدر، والطالباني والجعفري. لكن وبما أن المالكي يُمسك بتلابيب السلطة باعتباره رئيساً سابقاً وحالياً للوزراء، فإن ممارسات الدولة عادة ما تكون جارية على يده أو قريبة من ذلك جداً. وهي ذات الممارسات التي استحوذت على نصف عمر الدولة الجديدة.

بطبيعة الحال فإن التجربة العراقية في ختامها ستستقر. وقد تتغيّر أمورٌ كثيرة عما يحصل اليوم نحو الأفضل. لكن الإشكال ليس في هذا وحسب؛ وإنما في تشريح مشوار الوصول إلى ذلك التغيير وذلك الختام والاستقرار. إنني كعربي وكمسلم أعيش في هذه المنطقة (وغيري أيضاً) لم أعد قادراً على تصوّر كلفة ما جرى. ففي سبيل أن يُغيَّر النظام السياسي البعثي في العراق في أبريل/ نيسان من العام 2003، كان على العراقيين أن يدفعوا مليون قتيل، وأربعة ملايين مُهجّر، ومليوني أرملة، وخمسة ملايين يتيم وحربٌ مذهبية، وتربّع العراق على قائمة الدول «الأفسد» في العالَم، والأضعف في مستوى الخدمات، بالإضافة إلى أمن هشّ ومتصدّع يقضّ المضجع، وسلام اجتماعي مفقود. هذه هي المشكلة. فالكُلفة أكبر من حجم العراق بأضعاف، وأقوى من ناسه ومستقبله القادم لأجيال.

كفرد يعيش في الألفية الثالثة، وأدركْتُ مشهد دخول القوات الأميركية إلى بغداد، وشاهدٌ على سابقه ولاحقه لا يُمكن تخيّل ذلك مُطلقاً. لا أعلم مَنْ يستطيع استساغة هكذا أمر، وربما هناك من يَقْدر على ذلك. وقد يأتي جيلٌ قادم يشهد استقرار هذه الدولة فيقتنع حقاً، لكنني الآن غير مُستوعب لما جرى. أضرب مثالاً قريباً. اليوم وقد مضى على تأسيس الدولة الأميركية زهاء القرنين والنصف قد لا أشاهد جماجم 112 مليون هندي أحمر ينتمون إلى 400 شعب طَحَنَهُم الرجل الأبيض لكي يقيم دولته المُسمّاة بالولايات المتحدة وكندا نزولاً نحو الجنوب اللاتيني. بل إنني قد أقرأها كمعلومة تاريخية لا أمنحها أزيد من هزَّة كتف أو أن أتندّر بها هنا وهناك في أقصى الحالات.

لكن الأكيد ليس في ما أحسّ به أنا في حاضري، لأن هناك أناساً قَبْلي شَهِدُوا هذه المأساة إبّان ذلك التاريخ، ولم يكونوا مستعدين لتخيّل هول المأساة وحجمها فضلاً عن القبول بها. لم يستطيعوا غفران أن يبقى من الهنود الحُمر في العام 1900 سوى ربع مليون فقط من أصل 112 مليوناً. أو أن يستوعبوا أن93 حرباً جرثومية قد شُنَّت عليهم لإبادتهم. بالتأكيد لم يستطع أناس ذلك الزمان نسيان ما قام به الجنرال أنتوني حين أحرق 500 هكتار من محاصيل الهنود الحُمر ثم دمّر بيوتهم، أو حين تمّ قطع رؤوس زعماء قبائلهم وحرق جثثهم المقيّدة في جذوع الشجر، وسرقة فروات هاماتهم. ولو أن تلك الحقبة كانت مليئة بوسائل إعلام نشطة وتفاعلية وقنوات فضائية ورسوخ في الحقوق المدنية ومنظمات مجتمعية، لم تكن الأمور لتقف عند ذلك الحد من السكوت أو القبول, ضاربين بتجربة الرجل الأبيض عرض الجدار.

لسنا عدميين. أكررها مليون مرّة نحن لسنا عدميين، أو أننا نأسف أو نعضّ إصبعاً لأي تطوّر يحصل في التجربة العراقية ما بعد الاحتلال سواء في مسألة الأمن أو الاستقلال والسيادة أم في النظام الاجتماعي والأهلي أم تطور في القوّة الشرائية، أو الصناعة وغيرها من المناشط. بل على العكس من ذلك فإن الجميع ينتظر أن تستقرّ هذه التجربة وتُؤتي ثمارها في أقرب وقت، لكن المشكلة أنها (وفضلاً عن تلك الكلفة التي لا تُغتَفَر) لاتزال كسيحة، رغم أن الحصار رُفِعَ عن العراق، والشركات الكبرى تنهمر عليه كالمطر، وعلاقاته مفتوحة على الجميع.

سَقَطَت أنظمة أوروبا الشرقية كلّها. روسيا، أوكرانيا، بيلاروسيا، التشيك، رومانيا، ألمانيا الشرقية، لتوانيا، لاتفيا، مولدافيا، سلوفاكيا، بولندا، المجر واستونيا ومعها البلقان. لم نشهد مثل ما يجري في العراق من قتل وتدمير وفساد. سقط نظام الشاه محمد رضا وانتهى حكم السلالة البهلوية برمّته بعد الثورة الإسلامية، وتغيّر شكل النظام بالكامل حتى في عقيدته لكننا لم نشهد مثل ما جَرَى ويجري في العراق. استُبدِلت أنظمة أخرى في إفريقيا وأميركا اللاتينية لكننا أيضاً لم نشهد ما شهده العراق. لذلك ونتيجة كل هذه المقاربات والاستحضارات تستحق هذه التجربة (العراقية) كلّ هذا الرّصد والنقد، والمتابعة الحثيثة.

قبل أيام كنتُ أستمع لأحد الأصدقاء الذي عاد تَوَّاً من جولة إعلامية في الولايات المتحدة. حدّثني عن أمور عديدة تخصّ الدولة والمجتمع الأميركيين هناك وعن اليقينيات التي أخذت تترسّخ فيهما بفعل الممارسة الديمقراطية والفيدرالية التي صَقَلتها تجربة 234 عاماً من الحُكم الجمهوري الفيدرالي. لكن الأهم من كلّ ذلك، هو بقاء موضوعات مهزوزة وغير محسومة داخل النخبة الأميركية، أبرزها موضوع العراق وتورّط الولايات المتحدة الأميركية فيه، ومحاولة ابتكار أيّة وسيلة يُمكنها أن تُصحّح هذا الخطأ الاستراتيجي الذي وقعت فيه الولايات المتحدة الأميركية، والذي يفوق ورطة فيتنام التي وقعت في ستينيات القرن الماضي.

وربما أصبح هذا الموضوع (التدخل في العراق) بالنسبة للأميركيين، بمثابة المناعة التي ستجعل واشنطن تُحْجِم عن المشاركة في أيّة حروب قادمة، سواء في المنطقة أم غيرها من المناطق لمدة ثلاثين عاماً حسب إفادة الكثير من الخبراء. فهذه المشكلة لم تعُد مُتعلقة بموازنات ملياريّة، أو بمقتل الآلاف من الجنود ومثلهم من الجرحى، وإنما هو الإخلال بميزان المنطقة الاستراتيجي سواء على مستوى الأنظمة أم على مستوى التثوير الطائفي الآيدلوجي الخطير جداً، والذي قوَّى من شكيمة تنظيم القاعدة، وحفّز آخرين كانوا على التَّل (أو على الأقل طبقات صامتة) لأن يأخذوا موقفاً مما جرى، ويُوجّهوه ضد الأميركيين.

لك أن تتخيّل أن يُسقط الأميركيون نظام صدام حسين، فيأتي الإيرانيون لكي يملؤوه بالكامل، وهم خصوم واشنطن الألِدَّاء والتاريخيين، ليُصبح الطرفان متقابلان في الجغرافيا التي هي حتماً لصالح طهران بفعل الجيرة، وأيضاً في السياسة عبر الحلفاء المشطورين ومُزدوجي الولاء. وهو أمر خطير أضرّ بقوى حليفة للولايات المتحدة في المنطقة وجعل نفوذها في الإقليم يَجْزُرُ لصالح الإيرانيين، في الوقت الذي كانت واشنطن في غنى عن هذا كلّه.

ولك أن تتخيّل، فبعد أن كان تنظيم القاعدة في أفغانستان، أصبح مثيل له في بلاد الرافدين، وشبه جزيرة العرب. ثم في المغرب الإسلامي، والشمال الإفريقي، وفي ستين دولة حول العالَم إلى الحد الذي أصبحت فروعه أشدّ بأساً من التنظيم الأصل ومن شَيْخَيْه بن لادن والظواهري. هذه كلها كُلَفْ دفعتها الولايات المتحدة ودفعتها أيضاً دول أخرى وشعوب ممتدة، وقبلهم العراقيون ومحيطهم القريب من شعوب المنطقة، والله المستعان على ما أقول.

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 3006 - الأحد 28 نوفمبر 2010م الموافق 22 ذي الحجة 1431هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 7 | 12:38 ص

      لن تفهم العراق

      عذراً سيدي الكاتب على اللهجة التي ربما تكون غير لائقة اقول ربما ، العراق في وادي وانت ومن يكتب في وادي آخر ، العراق التي ارادو ان يغيروها ودفعوا مادفعوا وبالاحصائيات التي ذكرتها ليس رقما في زمن الطاغية ولا تمثل شيء في الارقام ،الخدمات التي تتكلم عنها اي نوع تقصد ها ؟ فضائيات انترنت طيران عمل بحرية ، القتل التي لا تدري عنه بالامس يأتيك بالدقة اليوم لان العراق اصبح اكثر شفافية ، ولكن الذي ينظر الى الشمس ويقول عنها غير موجودة يقال عنه " اتكلم عن العراق واعرفها عن قرب ( أبوحيدر )

    • زائر 6 | 12:26 ص

      علامة استفهام ؟؟؟

      مراوغه معقده و المراد و المغزى التى تريد استبيانه غير صحيح . محاولات لتغطية كره الدفين و اظهار الأمور الأقتصاديه بين البلدان بتدخل السياسى لتشويه السمعه ... لماذا ؟؟؟

    • زائر 5 | 12:05 ص

      الارهاب الامريكي

      لم يستطيعوا غفران أن يبقى من الهنود الحُمر في العام 1900 سوى ربع مليون فقط من أصل 112 مليوناً. أو أن يستوعبوا أن93 حرباً جرثومية قد شُنَّت عليهم لإبادتهم. بالتأكيد لم يستطع أناس ذلك الزمان نسيان ما قام به الجنرال أنتوني حين أحرق 500 هكتار من محاصيل الهنود الحُمر ثم دمّر بيوتهم، أو حين تمّ قطع رؤوس زعماء قبائلهم وحرق جثثهم المقيّدة في جذوع الشجر، وسرقة فروات هاماتهم.

    • زائر 4 | 11:01 م

      القلم

      يسلم هالقلم يا بو عبدالله

    • زائر 3 | 11:00 م

      رأي .. من السنابس!

      مرة اخرى اعبّر عن إعجابي الشديد بكتاباتك و اسلوبك السهل الممتنع المليء بالقوة والدلائل والحصافة، فبعدُ لا ادري ان كان يمكن وصفك بالاقتصادي ام السياسي ام الاجتماعي .. ام انت كل ذلك .. عندك فقط يُعرف الفرق بين من تحايل على الكتابة و غالبها وشاغبها دون موهبة ولا ملكة الا من مصطلحات فاقعة ناقعة (ماسخة) تحشر حشرا في مقال ليُقال عنه (مثقف) .. وبين من يحترم عقل قارئه بهذا الأسلوب الرزين الرصين.. ختاما نتمنى ان تجمع هذه المقالات لتصدر في كتاب لنفيد منه.. ودمت بكل خير و توفيق.

    • زائر 2 | 10:58 م

      الكاتب المحترم

      الكاتب المحترم
      نوري المالكي هو حديث العهد بالسلطة وقد يكون ذلك السبب الذي يجعله غير قادر على إدارتها ولكن في نهاية المطاف سيكون رجل دولة كما اصبح غيره رجال دولة . واذا كان الجهال والجهلة قد اصبحوا زعامات وقيادات على شعوب مغلوبة فكيف برجل لديه ماجستير وصاحب خبرة حزبية

    • زائر 1 | 8:42 م

      نور

      كل اصدار من جريدة الوسط يكون بلا قيمة دون هذه الصفحة .. سلمت لنا هذه العبقرية التحليلية التفكيكية ..

اقرأ ايضاً