العدد 3051 - الأربعاء 12 يناير 2011م الموافق 07 صفر 1432هـ

تاريخ تأسيس مدينة البصرة ومزاجها الفكري الرأيوي - الكلامي

البصرة وعلاقة المكان بفكر التصالح (1/ 3)

تسعى هذه المقالة المتكونة من ثلاث حلقات إلى تسليط شيء من الضوء على التاريخ من أجل التعرف على مدى تسرب منزع «المكان» العقلي، الكلامي، النصي، الروحاني وتنوعاته الثقافية والمذهبية إلى وعي «المفكر» المقيم في ذلك المكان. فالمكان (دون الغبن لعوامل غير مكانية أخرى مشكّلة للهوية) بوابة بليغة لدراسة الهوية تمكننا من النفاذ على دواخل الأحداث واكتناه أعماقها. فالمكان مُعلّم من مُعلّمات الهوية يمنح شخصيات التاريخ الإسلامي كينونيّة يقتصر إنتاجها على ذاك الموقع دون غيره. ومن بين الكم الهائل من النقاط (الدينية، السياسية، الاجتماعية، الاقتصادية) غير المادية والمنتمية بكثافة هائلة إلى المكان قد نتمكن من أن نجد تلك النقطة، النقطة المعبر لكي نحلق في فضاء البحث من خلالها، أو نخوض معها رحلة إماطة اللثام عن كنّ الواقع عندما كان ماضياً، أو عن مراحل الوعي قبل أن نكون، لعلنا ندرك كيف لملم أجدادنا العظام شملهم عندما تبعثر وذلك من خلال دراسة البصرة زمن واصل بن عطاء المعتزلي (80- 131هـ).

تتحدث المقالة الأولى التي بين يدينا عن تاريخ تأسيس مدينة البصرة ومزاجها الفكري الرأيوي - الكلامي. في حين تتطرق المقالة الثانية إلى التنوع الفكري والعقائدي الذي احتضنته البصرة في بيوتها، مساجدها، مدارسها، أحيائها وساحاتها التجارية. وختاما تتأمل المقالة الثالثة في موقف واصل بن عطاء المعتزلي من التمزق الثقافي الذي تصاحب مع كلاميات الفرق الإسلامية الأولى في لحظة تكونها وكيف عمل جاهدا إلى إيجاد ثقافة تسمح بالتنوع والتعدد والتوفيق والجمع بين المسلمين من خلال مقولته «المنزلة بين المنزلتين» (1).

تأسيس مكان يحاذي النهر ويتصل بالبحر ويطل على الصحراء اسمه البصرة: ارتبط تاريخ إنشاء مدينة البصرة بالإذن الذي أعطاه الفاروق عمر بن الخطاب (ت 23هـ) للقائد عتبة بن غزوان بتمصير معسكر البصرة سنة 14 أو 17 هـ ( ياقوت الحموي 432 ج1). تمكن الفاروق من اختيار معسكر يوفر مقومات المعيشة المناسبة للطبيعة الرعوية من غالبية جيشه من العرب وذلك لاحتوائها على المشارب والمرعى والمحتطب. ولكن نواميس العمران لم تكن بحسبان الفاروق حيث أخذت جاذبية المكان تهوّن على المسلمين إغفال الشوق إلى مساقط رؤوسهم من مثل المدينة المنورة وسائر مدن الجزيرة العربية. ومع تراحل الزمن وبفعل الفتح والمهاجرة لأسباب سياسية أو معاشية استقر العرب في البصرة. وهكذا بدأ العرب لأول مرة خوض تجربة نسيج عمراني يقطنه أخلاط من قبائل شتى تختلف نسباً وعصباً وهو غير مألوفهم. نعم لقد عهدوا مدينة القبيلة الواحدة ومدينة التعدد القبلي ولكن ضمن معاهدات الحلف. ولكن أنموذج البصرة هو أول مكان مدني أنشئ من شبه عدم على منهج أخوة الإسلام دون إملاءات وشروطات معاهدات الحلف. فنجد أن البصرة كانت مقسمة إلى خمسة أحياء تعرف بالأخماس، كل خمس لقبيلة وهي الأزد وتميم وبكر وعبد القيس وأهل العالية (بطون قريش وحلفاءها) ولا يجمعهم سوى الإسلام (ابن الأثير 34).

ومن ناحية المواصلات، فإن البصرة منفتحة على الطرق البرية والنهرية المفضية إلى البحر مما سمح لها بالتطور الاقتصادي والاجتماعي وعُرفت البصرة مبكرا بكثرة خيراتها المالية والزراعية وذلك منذ زمن عبدالملك بن مروان الخليفة الأموي الخامس (ت 86هـ) (ياقوت الحموي 438، 439 ج 1).

والبصرة من الناحية الجغرافية متاخمة لبلاد فارس، فكثر فيها الموالي الذين استقروا فيها أو شكلوا جزءاً من السكان العابرين على المدينة. الموالي وقد شكلوا طبقة خاصة من طبقات المكون الاجتماعي أقاموا جنبا إلى جنب مع العرب. وعرب البصرة كما عرفنا ينتسبون إلى قبائل ولكنها متباينة النسب وهكذا أصبح الخلط صبغة ثقافية يميز نسيج مدينة البصرة الصّاعدة.

الرأي مزاج المنهج البصراوي: ولكن للفاروق أثراً على البصرة لا يمكن اختزاله فقط في اختياره مكانها بل يتعداه إلى خصوصية مزاجها المنهجي. فكما عُلم عن الفاروق أنه أكثر الصحابة إقداماً على إبداء الرأي في النص وذلك بعد استنفاذ أمر المشورة. ومن المعلوم أن الطريقة العمريّة في التفكير والاستنباط والرأي حيث لا نص وجدت طريقها إلى ميول الصحابي عبدالله بن مسعود (ت 33ه). وحصل أن بعث عمر مقلّد طريقته عبدالله بن مسعود إلى أهل العراق بمهمة تعليمهم شأن دينهم الحنيف. تمخضت جهودات عبدالله عن حركة علمية واسعة والتي أثمرت في نشر وتأصيل هذا المنهج في البصرة والكوفة حتى عُرف أهل العراق بالرأي. (مناع القطان، ص 289، 290 في «تاريخ التشريع الإسلامي») هذا المنهج ذو الطابع الرّأيَوي والمتهيب من الرواية للأحاديث النبوية أفسح المجال كما سنرى لمشاركة أكبر لفهم الدين من خارج الكتل والأنسقة المنحازة للنص، متجاوزاً لأدواته ومصطلحاته ومؤسساته في مراحل تكويناته الأولى. عليه ليس بغريب احتضان البصرة لأهم الفرق الكلامية من الجبرية، المرجئة، الخوارج والشيعة. ولكن يجب ألا يفهم أن المنهج ذا الطابع الرأيوي والذي يرتقي بسلطان العقل فوق سلطة المنافس النصي كان الوحيد في البصرة. بل كان لأهل الحديث المستندين إلى سلطة النصوص المقدسة حيز وجود بل وتأثير لا يمكن نكرانه تاريخياً في البصرة (علي اوميل، ص 97 في «السلطة الثقافية والسلطة السياسية»، 1996) .

الإنسان بين خصوصية الحي وعمومية الأسواق: عند إطلاق مخيلتنا لاستعادة الطبوغرافيا الثقافية لمدينة البصرة في زمن ما قبيل وبعيد المئة الأولى، عندها قد ينزع مخيالنا إلى تخيل المدينة كمتكون مركب من ثقافات كنتونية، متوازية، منفصلة ومنقطعة عن بعضها بعضا. فهناك حي خاص بالفرق الكلامية من الجبرية، المرجئة، الخوارج والشيعة. وقد نسأل أنفسنا لماذا تخيلنا كل هذا الانقطاع؟ فندعم موقفنا التخيلي قائلين: كل معتقد له أبنيته الفكرية الخاصة به. فهناك مؤسسات المساجد، المدارس والحلق يتزعمها شيوخ ومرجعيات ورموز. وهي مؤسسات تضمن بث أفكار المعتقد الكلامي بين أبناء عصرها، كما أنها تشرف على نجاح عملية التواصل التاريخي بين أجيال الأحفاد والأجداد لتعيد إخراج مقالاتها بصياغات متكيفة مع طابع كل عصر ومع متطلبات أزمنة المستقبل.

دعنا عزيزي القارئ نتخيل أن البصرة متكونة من أحياء مشيدة على أساس نسيج العصبية القبلية وليس على أساس معتنق كلامي. فلم يكن بالبصرة حي خاص بالجبرية، المرجئة، الخوارج والشيعة بل علمنا أن الأحياء مقسمة بناء على القبائل. مثل هذا التخيل يسمح لنا أن نتصور أن بين أبناء القبيلة الواحدة تفشى أكثر من معتقد كلامي. أيضا دعنا نتخيل تلك المواقع، أسواق، حوانيت، حمامات التي مارس منها البصراويون صناعاتهم، تجاراتهم، خدماتهم دون التنازل عن كلامياتهم. أيضا دعنا نتخيل المشي اليومي للمتسوقين من خصوصية أحيائهم إلى عمومية مواقع الأسواق والحوانيت. نسق التسوق اليومي يعني تبادل معلومات عن توافر البضاعة وأسعارها ولكنه أيضا نسق يشتمل على التداخل المرئي، السمعي، التحاوري المباشر بين أتباع الفرق. أسواق تهيئ البصراوي للتعرف على أشياء كثيرة وبالطبع مواقف المشتري والبائع الكلامية من أوليات أمور تلك التعارفات.

الأمة البصرة: الآن دعونا نتأمل زمن واصل بن عطاء المقيم بالبصرة فبقليل من التخيل سنرى البصرة مدينة تمصرت في زمن الفاروق، وعرقياً تكونت من أخلاط من قبائل عربية مهاجرة، جغرافياً متاخمة لبلاد فارس، تجارياً منفتحة على منافذ متعددة فمن خلال اتصالها البحري تنفتح على الأمم كما أنها منفتحة على أهل العراق نهرا وعلى العمق العربي برا، منهجياً ذات ميل عقلي، تعليمياً مركز دراسي يستقطب مفكرين وطلبة من أرجاء المعمورة، سياسياً لا يوجد فيها غالبية حزبية مرجحة، فكل الفرق لها وجود وموضع قدم، فهذه المدينة لا تبدو أنها قادرة على توفير قاعدة عريضة تكفي لسيطرة أي من الفرق المتنافسة من الجبرية/ المرجئة/ الخوارج/ الشيعة. فكأنما ما يشبه الأمة تمثلت من خلال كثرة خليط قبائلها، وتنوع شعوبها وتعدد أحزابها ومذاهبها الكلامية كل ذلك داخل نسيج المجتمع البصراوي. نسيج لا يعرف الأستاتيكيية بل دائماً في حيوية وديناميكية وتفاعل بحكم مكوناته الداخلية واتصالاته وانفتاحياته الخارجية.

1) واجه ولايزال واصل بن عطاء المعتزلي الكثير من النقد. يصب جلها حول ترسيمه الحدود للإرادة الكونية والمشيئة الربانية أمام إطلاق الحرية الفردية من معاقل الفكر الجبري المقلصة للإرادة الإنسانية.

العدد 3051 - الأربعاء 12 يناير 2011م الموافق 07 صفر 1432هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 1 | 7:28 ص

      أكثر من التصالح

      المدينة لها تأثي على الإنسان. فهي مصدر الخير أو الشر. وحديث الذي قتل 99 انسان طلب منه عالم الدين أن يرحل عن القرية التي تربى فيها القاتل وأن يهاجر الى قرية جديدة معروفة بالصلاح.
      لماذا؟ لأن بعض المدن تشتهر بالعنف وبعض المدن تشتهر بالهدوء

اقرأ ايضاً