العدد 3053 - الجمعة 14 يناير 2011م الموافق 09 صفر 1432هـ

التصالح مع الذات

ياسر حارب comments [at] alwasatnews.com

يروي «ستيفن كوفي» في كتابه «العادات السبع للناس الأكثر فاعلية» قصته مع رجل ركب معه المترو يوماً مصحوباً بأطفاله الذين كانوا يقفزون من كرسي إلى آخر، وكان صراخهم يكاد يصمّ آذان الركّاب دون أن يتكلف الأب حتى عناء النظر إليهم. لم يحتمل كوفي تلك الفوضى، فهجم على الرجل بكلام قاسٍ وطلب منه أن يضبط أطفاله. انتبه الرجل فجأة وقال له: «اعذرني، فلقد توفيت أمهم في المستشفى قبل قليل ولم أنتبه لهم من هول الصدمة، أنا آسف»، عندها لم يعرف كوفي ماذا يفعل، وتمنى لو أنه تريّث قليلاً قبل أن يحكم على الرجل بأنه مُهمِل.

إن ما قام به كوفي هو تصرف مألوف يمتهنه بنو البشر، فلا يكاد أحدنا يرى شخصاً غريباً، حتى يبدأ بإطلاق أحكامه عليه، وخصوصاً إذا كان ذلك الشخص ينحدر من ثقافة أخرى أو من معتقد آخر.

كلّنا يحمل في داخله قاضياً صغيراً، ولكنه ظالم في كثير من الأحيان، ومتسرع في إطلاق أحكامه... قاضٍ لم تنصّبه المحكمة، بل إنه حتى لم يدرس القانون، فهو نتاج لصراع الإنسان مع ذاته، وعراكه المستمر مع نفسه... ولذلك، يرفض هذا القاضي أي صلح بين المرء وبين نفسه.

لكي تتصالح مع الآخرين عليك أولاً أن تتصالح مع ذاتك، وأن تقبلها بكل عيوبها، بضعفها وبزلاتها دون أن تحكم عليها، ودون أن تصنّفها أيضاً. عليك ألا تقهر نفسك، ولا تهينها ولا تحقّرها، فكما تدينها تدينك، والجزاء من جنس العمل. أن تتصالح مع ذاتك يعني أن تَقْبل الآخر بكل اختلافاته وتناقضاته، ليس لأنك تحبه، ولكن لأنك، ببساطة، لا تكرهه.

انظر إلى غاندي، ومانديلا، والأم تريزا، هؤلاء أمثلة على أناس عقدوا صلحاً أبدياً مع أنفسهم، لأنهم اكتشفوا بأن كره المرء لنفسه هو أسوأ خطيئة يرتكبها الإنسان في حياته، وحتى بعد مماته. يستغرب البعض كيف استطاع مانديلا أن يعيش في زنزانة ضيقة طوال سبعة وعشرين عاماً، الجواب ببساطة هو أن مانديلا تجاوز نفسه ليتصالح مع الكون كلّه، ومع الوجود، فاتسع قلبه لكل المعتقدات ولكل الأشكال ولكل الألوان، فأصبح «سعادة» تمشي على الأرض. ليس النجاح في الوصول إلى السعادة، ولكنه في إيجادها. هؤلاء أوجدوا سعادتهم في عنابر السجون، وفي مخيمات المعدومين والفقراء.

أن تتصالح مع ذاتك يعني أن تترك الوعظ جانباً وتهبط إلى المجتمع حتى تفهم مكوناته، وتستوعب تقلّباته التي تشكّل، في خضم تناقضاتها، نسيجه اللامحدود، الذي لم يزده الوعظ تماسكاً. يعتقد ابن خلدون بأن الوعظ، في أحيان كثيرة، يؤدي إلى سفك الدماء، فالناس، لبساطتها، تثيرها المشاعر، ويهيجها الكلام الوعظي، فتندفع كبركان ثائر، ليدمّر الأخضر واليابس. انظر إلى الشباب من حولك، هل زادهم الوعظ صلاحاً؟

أن تتصالح مع ذاتك يعني أن تدرس الواقع كما هو، دون أن تفرض عليه قوانينك أو معتقداتك أو تعاليمك، ودون أن تنصب ثقافتك كميزان لقياس مدى صلاح المجتمع، فكل يعتقد بأن ثقافته هي الأصوب. أن تتصالح مع ذاتك يعني أن تتخلى عن الخرافة، ولن يتأتى لك ذلك إلا من خلال العلم. فكما تقول الحكمة: كلّما زاد العلم، قلّت الخرافة... تأمّل قليلاً وستعرف ما هو العلم، يقول كونفيشيوس: «لكي تصل إلى المعرفة عليك أن تبدأ بالتفكير».

أن تتصالح مع ذاتك يعني أن تدفع بالتجريد إلى حده الأقصى، لكى ترى الوجود الخالص المجرد من كل ما هو حسّي، وكل ما هو تاريخي... يعني ذلك أن تنسى تاريخك، للحظات، وتبدأ تاريخاً جديداً، تستهله بحلم أو طموح، تاريخٌ يبدأ بكلمة «اقرأ».

عندما ترى شخصاً ما يقوم بفعل سيّئ، في عُرفِك، فلا تحكم عليه بأنه إنسان سيّئ، فلقد قال الفلاسفة، بعد ألفي عام من النقاش، إن جوهر الشيء لا ينتمي إلى الشيء ذاته، فقد تكون الظروف، وليست نفسه الشريرة، هي التي دفعت فقيراً إلى السرقة. لقد توصل الفلاسفة إلى أن جوهر الشيء مرتبط بعالم الفكر والروح، لا عالَم المادة، لذلك كان التصالح مع الروح هو أول خطوات الحضارة.

لكي تتصالح مع ذاتك عليك أن تعود بذاكرتك إلى الوراء، وتبدأ منذ أول ذكرى في حياتك، وعند أول معلومة حفظتها، ثم قم بمسح كل ذكريات العنف والأسى والقهر، وامسح كذلك كل ما حفظته من شعر الحماسة وشعر الهجاء، ولا تنسى أن تمسح أيضاً كل معلومة عن الحروب التاريخية، تلك التي عاصرتها، أو قرأت عنها، أو حتى تمنيتها.

أن تتصالح مع ذاتك يعني أن تناهض التعميم، وتعارض فكرة الشمولية. فالتعميم يلغي خصائص الأشياء ويمحق صفات الناس المتباينة، ليحيلهم جميعاً إلى قالب واحد، أشبه بالحجر في قسوته، وأقرب إلى الفخار في هشاشته... التعميم يلغي مميزات الأشياء، تماماً مثلما يلغي الظلام كل الألوان... التعميم هو أقرب وصف للظلام.

المتصالح مع ذاته يشبه النهر الذي يستمر في صبّ مياهه العذبة في البحر المالح على الرغم من علمه بأنه لن يحيله حلواً، فهو يعلم بأن مهمّته تكمن في ري الأراضي التي يمر عليها، وليس في تحلية مياه البحر.

المتصالح مع ذاته ينصت كثيراً، ليفهم أكثر، ينصت للأفكار التي يبثها الناس في السماء من حوله، تلك التي تحلّق وتحط على الصامتين، المنصتين، المتأملين، الذين يظنون بأن الفكرة لا تحلّ إلا على من يستحقها فقط.

السماء لذلك المتصالح هي مصدر الحكمة، والأرض هي مصدر الشقاء، لذلك تجده يطيل النظر إلى السماء دائماً، حتى يتحلى بصفات أهلها. تقول الحكمة: «الأشخاص العظام يناقشون الأفكار، والأشخاص العاديون يناقشون الأشياء، أما الأشخاص الصغار، فإنهم يناقشون الأشخاص».

إقرأ أيضا لـ "ياسر حارب"

العدد 3053 - الجمعة 14 يناير 2011م الموافق 09 صفر 1432هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 4 | 12:32 م

      جعفر الغسرة

      صحيح أنني أحب مقالاتك ولكن خذ: أن تتصالح مع ذاتك بعني أن تقبل الأوضاع كما هي ولا تساهم في تغييرها,أن تتصالح مع ذاتك يعني أن لا تحرك ساكناً ولا تدفع ظالماً ولا تعارض طاغياً..ولا تصلح خراباً.. أن تتصالح مع نفسك,يعني أن تقبل أن يشتمك شرطي أو يعذبك جلاد,أو يسرق ثروة أوطانك ,فقد يكون له عذر, (إن جوهر الشيء لا ينتمي إلى الشيء ذاته، فقد تكون الظروف، وليست نفسه الشريرة، هي التي دفعت..).. هل وصلتك الرسالة أخي حارب

    • عنب احمر | 11:07 ص

      عنب احمر

      تسلم يا بو عمار
      مقال فوق التصور
      وااااصل الابداعات

    • زائر 3 | 8:51 ص

      طوبى للمتأملين

      قال الامام علي عليه السلام : قال عيسى بن مريم على نبينا وعليه السلام:
      طوبى لمن كان صمته فكرا ،ونظره عبرا، ووسعه بيته، وبكى على خطيئته، وسلم الناس من يده ولسانه..
      القرب من صاحب السماء إخلاصاً وتذللاً يجعلك من العقلاء ،وبالقرب تكمن التقوى ،وبالتقوى تكمن الحكمة وصون اللسان من الانحراف المورث للندم والخزي..
      وقفة تأملية لازمة مع النفس الهلوعة ..
      بوركت أخي ياسر :)

    • زائر 2 | 2:02 ص

      :)

      ما أجمل أن تبدأ صباحك بمقال تأملي من مقالات أ.ياسر حارب الفِكرية ...
      ولكن لا أدري لماذا وجدته سريع الوقع هذه المرّة، وكأنك أردت اختصار السعادة في مقال, وهذا لا يمكن أن يحدث.

    • زائر 1 | 10:58 م

      غريب الرياض

      ممتاز مقالك رغم انه يحتاج الى نشره على شكل حلقات نظرا لتعقيده. اتمنى لك الافضل

اقرأ ايضاً