العدد 3090 - الأحد 20 فبراير 2011م الموافق 17 ربيع الاول 1432هـ

انتفاضة يناير بين فيس بوك... وفيس قرضاوي

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

إذا تأكدت الأنباء الواردة من مصر وجزمت صحة الخبر الذي يقول إن حراس الشيخ يوسف قرضاوي (مواليد 1926) منعوا الشاب وائل غنيم من إلقاء كلمة في يوم «جمعة النصر» الذي حشد الملايين في ميدان التحرير تكون الأمور السياسية أخذت تسير في إطار قنوات أرضية لا فضائية. فالحادث في النهاية له دلالاته وإشاراته الرمزية التي تؤكد مسألة موازين القوى ودورها الميداني في ترجيح أو تصويب الاتجاهات.

انتفاضة الشباب التي بدأت تتماوج في ارتدادات شبكة «فيس بوك» في 25 يناير/ كانون الثاني تحولت إشاراتها الفضائية في 18 فبراير/ شباط إلى حراك اجتماعي تقوده القوى الفاعلة تنظيمياً على الأرض. وبيّن عالم «فيس بوك» الافتراضي الهلامي وفضاء «فيس قرضاوي» الواقعي يرجح أن تتمظهر صورة ميدانية ستكون مغايرة لكل تلك المقولات الوهمية التي بالغت في إعطاء مواصفات وصفات لدور الشباب الخاص والمستقل عن الجغرافيا والتاريخ والاجتماع العمراني.

حادث المنبر في ميدان التحرير إذا تأكدت صحته يرجح أن يكون إشارة إلى بدء تحول انتفاضة يناير من الفضاءات وأدواتها إلى الأرض وأخواتها. فالانتفاضة في النهاية لم تصنعها أجهزة الكومبيوتر وقنوات الفضائيات وشبكات الإنترنت والتويتر والفيس بوك ويوتيوب والمدونات (البلوغرز) وإنما جاءت نتاج تحولات جزئية تراكمت زمنياً في إطار القهر والاستبداد والإذلال.

الأجهزة لا تصنع ثورة وإنما تساعد على الوصل والربط، فهي أدوات متنقلة وغير ثابتة. في عهد جمال عبدالناصر لعب الراديو (إذاعة صوت العرب) دوره في نشر مبادئ ثورة يوليو إلى المنطقة العربية. وفي عهد شاه إيران لعب التسجيل (الأشرطة) دوره في نقل خطب الإمام الخميني إلى الداخل. والآن يلعب التطور التقني والفني على مستوى حركة الاتصالات والمواصلات دوره في افشاء الأفكار وتعميمها على الجمهور المستمع أو المشاهد. ولكن هذا العامل الفاعل والإضافي لا يعني إطلاقاً أنه يشكل البديل الموضوعي عن الواقع وتشعباته وتراكماته وامتداداته.

القوة الحاسمة والمرجحة في النهاية هي تلك التي تتحرك على الأرض لأنها ميدانياً تمتلك أدوات السيطرة في التوجيه وعمليات الكر والفر. ولأن الواقع كذلك تصبح كل القوى المضافة مجرد عوامل فاعلة مؤقتاً يتلاشى دورها حين تنتقل المعركة من عالم الفضاء الافتراضي والوهمي إلى عالم الأرض الواقعي والمتعرج في تلاوينه الاجتماعية والسياسية والثقافية.

أجهزة الترانزيت والقنوات السلكية (الهواتف) واللاسلكية (الجوالة) مجرد أدوات تسهل عمليات النقل والربط وتساعد القوى الفاعلة على الأرض على تمرير المهمات والتوجيهات والإرشادات من مكان إلى آخر، ولكنها في النهاية لا تستطيع أن تكون البديل عن البشر. فالبشر هم يلعبون الدور الميداني في إدارة المعركة وترتيبها وتنظيمها واحتواء مضاعفاتها وتفاعلاتها وصولاً إلى ربطها في آليات أرضية واقعية يصعب التحكم بها من الفضاء الخارجي والعالم الافتراضي.

منع الناشط التقني في شركة «غوغل» والوجه البارز في حركة «25 أبريل» الشبابية من إلقاء كلمة لا يعني إطلاقاً أن قوة الشباب غير موجودة ميدانياً. فهذه المسألة محسومة وليست بحاجة إلى برهان، ولكن المبالغة في قوة دور الشباب الفضائية تتطلب إعادة قراءة حتى توضع النقاط على الحروف.

الشباب في النهاية كتلة اجتماعية تتوزع إنتاجياً على طبقات وفئات منتشرة أفقياً على مناطق جغرافية وجهات مناطقية غير موحدة سياسياً وثقافياً. فالقوة الشبابية ليست طبقة منتجة تمتلك أدوات موحدة في العمل أو التدبير كما هو حال الفئات الاجتماعية التي تنتمي إلى مواقع اقتصادية ثابتة ومستقرة في هيئات مدنية أو نقابات عمالية أو أندية ثقافية أو لجان شعبية في الأحياء أو كوادر ناشطة في جمعيات سياسية.

هذه الكتلة الشبابية قوة مؤقتة محكومة زمنياً بالشرائح العمرية التي تتغير سنوياً. فالشاب يشيخ والطفل يكبر ما يعني أن القوة تصبح دائماً في حال تغير لكونها تعيش في فضاء عام تتحكم به آليات خاصة مرتبطة بقوانين اجتماعية - إنتاجية أرضية.

الأمر نفسه حصل خلال الثورة الطلابية (الطالبية) في فرنسا في العام 1968. آنذاك توحدت مؤقتاً شرائح الطلبة في الجامعات والمعاهد والأكاديميات وحصلت على دعم من طبقات المجتمع والأحزاب الايديولوجية وبدأت بالحراك السياسي الميداني للإطاحة برأس النظام الجنرال شارل ديغول. وخلال انتفاضة الكتلة الطلابية طرحت الكثير من الأفكار الوردية (السلطة كل السلطة للمخيلة) وظهرت شعارات زاهية لاقت الرواج من الشارع المحتقن ما شجع فلاسفة تلك الفترة على تقديم تحليلات وتفسيرات لتلك الظاهرة التي لم تدخل سابقاً في الحسابات.

استمرت الانتفاضة نحو شهور وأخذت بالامتداد إلى خارج فرنسا إلى أن انتهت بتقديم الجنرال ديغول (بطل التحرير في الحرب العالمية الثانية) استقالته من رئاسة الدولة. وبعد الاستقالة تلاشت الكتلة الطلابية وتخرج قادتها الشباب من الجامعات والمعاهد والأكاديميات بعد أربع سنوات وتوزعوا على الوظائف المكتبية في الشركات والمصارف والمدارس ومؤسسات البحث والدراسات فغابت الظاهرة المؤقتة عن المشهد السياسي وتبخرت أفكارها العامة والفضفاضة بعد فترة قصيرة وعادت الأمور إلى عهدة الأحزاب التي استفادت من التغيير في قمة الهرم وأخذت تتنافس ميدانياً على توظيف الفراغ واستثماره في المعارك الانتخابية (التشريعية والبلدية والنقابية).

الانتفاضة الطلابية في فرنسا العام 1968 لم تكن تمتلك خطة عملية محددة النقاط موضوعة في برنامج واضح في آلياته المطلبية. وهذا الأمر طبيعي وليس غريباً لأن الطلبة كتلة مختلطة ولا تنتمي إلى طبقة منتجة واحدة أو فئة اجتماعية تتمركز في مناطق جغرافية متجانسة. كذلك الطلبة شريحة عمرية مستهلكة لا منتجة وهي تتعلم ضمن نظام مؤقت تتخرج منه بعد أربع أو ست سنوات وتنال شهادات متنوعة في الاختصاص تساعدها على الانخراط لاحقاً في سوق العمل لتبدأ رحلة الإنتاج لمدة لا تقل عن 40 سنة.

المسألة إذاً محكومة بالاجتماع والاقتصاد والثقافة والهوية والعصبية والجهوية وتتجاوز في إطارها العريض والبعيد المدى اللحظات المؤقتة أو تلك الأجهزة التقنية والفنية التي تستخدم للاتصال والمواصلات في فترة زمنية طارئة. فالانتفاضة في مصر لم تصنعها شركة غوغل أو شبكة فيس بوك أو محطات التلفزة والفضائيات. هذه العناصر كلها عوامل إضافية فاعلة ولكنها في النهاية مؤقتة زمنياً ولا تستطيع الصمود والبقاء نظراً للتقدم والتحول في الأعمار من جانب ولدور القوى الفاعلة وقدرتها على التحكم ميدانياً على الأرض منذ عقود وسنوات.

القوة البشرية وآلياتها الخاصة في إنتاج اللحظات السياسية هي المحرك الفعلي للتحولات وهي تقود معادلة التوازن والتفاوض واستنباط البرامج واستقراء خطوات المستقبل واحتواء المتغيرات وتوظيفها لإعادة تشكيل السلطة وصورها ورموزها.

إذا كانت الأنباء بشأن منع حراس الشيخ قرضاوي الشاب غنيم من الكلام على منبر «جمعة النصر» في ميدان التحرير صحيحة أو مفبركة إعلامياً فإن هذا الحادث لا يقدم أو يؤخر في المسار التاريخي العام. ظاهرة الشباب تشبه في تكوينها الاجتماعي والاقتصادي والثقافي والجهوي والوظيفي ظاهرة الانتفاضة الطلابية في فرنسا العام 1968، فهي ظرفية مؤقتة وسرعان ما تتلاشى وتغيب عن المشهد السياسي بعد حين لتأخذ مكانها ودورها قيادات ورموز القوى الفاعلة ميدانياً على الأرض.

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 3090 - الأحد 20 فبراير 2011م الموافق 17 ربيع الاول 1432هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً