العدد 3102 - الجمعة 04 مارس 2011م الموافق 29 ربيع الاول 1432هـ

أرضُ الزمرد الحمراء

كانت صورة الثائر الأرجنتيني «تشي جيفارا» تزين قمصان الكوماندوز الذين هبطوا من المروحية المطلية باللون الأبيض وترجلوا في طريقهم للمخابئ العصيّةِ على ضفة نهرٍ وسط أدغال الأمازون. في انتظارهم، كان الرهائن الذين يعتزمون التحليق بهم حتى معقل «أفونسو كانو»، زعيم متمردي «القوات المسلحة الثورية الكولومبية - الفارك» في معقله الغامض.

بعد أن صعدت النائبة البرلمانية ومرشحة الرئاسة الكولومبية «إنغريد بيتانكور» ومن معها من الرهائن على متن المروحية، وجدوا الرجال المقنعين وعلى صدورهم يلوح وجه جيفارا بقبعته العسكرية وهم يحكمون القيد ويوثقونهم بأمر أحدٍ ما، كان على مقربةٍ كما يعتقدون من «أفونسو»، لم يخالج أحداً الشك بأنهم سيقضون أياماً أخرى مع الفارك في أعماق الغابات الاستوائية الرطبة، وربما يكونون عرضةً للموت، خصوصاً بعد أن شعروا باهتزاز المروحية وهي تبتعد عن سطح الأرض لتتقازم أشجار الأمازون السامقة ويضيق النهر أسفل منهم وهم يتجهون نحو المجهول.

لم تصدق بيتانكور وهي تقضي عامها السادس في الاحتجاز عندما أماط الرجال أقنعتهم وكشفوا عن هويتهم بأنهم ليسوا سوى جنودٍ من الجيش الوطني الكولومبي، كانوا على يقينٍ أنّ هذه المزحة لا تليق بمن هم في مثل هذه الحال البائسة إلا عندما تلاقوا وأهليهم وجهاً لوجهٍ وتشابكت أكتافهم وتنفسوا ريحَ الحرية التي انتظروها سنيناً طويلةً حين لم تفلح أيٌ من الجهود المبذولة لإطلاقهم، غير أنّ نجاح أعقد عمليةٍ استخباراتيةٍ لتحرير الرهائن من قبضة الوحش الماركسي دون إطلاق رصاصةٍ واحدةٍ، توَّجهم بأمنيتهم البعيدة بعد أن تمّ اختراق الفارك وشراء بعض مقاتليها واستخدام أحدث التقنيات الأميركية في التعقب والمراقبة.

وحتى لو كان لدى الفارك مئاتٌ آخرون من الرهائن ستعضُّ عليهم بالنواجذ في انتظار تسويةٍ ما، فإنّ هذه العملية تظلّ دليلاً ملموساً على تآكل القدرات التنظيمية والعسكرية لأعتى منظمةٍ يساريةٍ مسلحةٍ في أميركا اللاتينية، وفي بلدٍ يعيش حرباً أهليةً ودماراً هائلاً في بنيته الاقتصادية والاجتماعية والسياسية منذ نصف قرن، نتيجة إرثٍ مرٍ يعود بخيوطه إلى تاريخ نيلها الاستقلال عن إسبانيا في العام 1819م، حين أعلن القائد سيمون بوليفار قيام كولومبيا العظمى التي كانت تضمُّ فنزويلا وبنما والاكوادور، قبل أن تنفصل فيما بعد عن الوطن الأم وتعلن تباعاً استقلالها التام وتمتعها بالسيادة الكاملة.


ديمقراطيةٌ جريحة

 

ورغم أنّ كولومبيا تعتبر أعرق ديمقراطيةٍ دستوريةٍ في أميركا اللاتينية وأقدمها في الممارسة الحزبية منذ نشوء حزبي الليبراليين والمحافظين العام 1848م، والذين مازالا يمثلان قطبي اللعبة السياسية حتى الوقت الحاضر، فإنها تعتبر أيضاً أقدمها تعايشاً مع تجربة القتل والحروب الأهلية التي أفرزها الصراع السياسي بين هذين الحزبين عندما أخذ تجلياً دموياً كما في «حرب الألف يوم» التي دارت رحاها بين عامي 1899 و1902م، وحفرَ في ذاكرة الكولومبيين جرحاً غائراً تفتق ثانيةً ليحصد مئتي ألف قتيلٍ في نزاعٍ تطور لحربٍ أهليةٍ كان سببها اغتيال المرشح الليبرالي للرئاسة «إليزير غايتان» العام 1948م.

استمرت هذه الحرب عشر سنواتٍ، ثم انخفض منسوب العنف حين اتفق الحزبان على الإدارة المشتركة للبلاد، لكن ارتدادات تلك الحادثة لم تنحسر في حدودٍ «زمكانيةٍ»، لأنّ الصراع بدأ بسلوك منحىً مختلف بقيَ يتدفق فيه الدم حتى اليوم.

مثل العرب والمسلمين، يمكن أن يشكل العام 1948م مفصلاً مهماً في تاريخ كولومبيا الحديث، لأن حادثة الاغتيال تلك، وإن تسببت بحربٍ بين القوى التقليدية المسيطرة من ليبراليين ومحافظين، إلا أنها أيضاً ساهمت ببروز قوىً متمردةٍ يساريةٍ ويمينيةٍ مسلحةٍ، ربما تكون قاتلتْ في البدء من أجل عقيدةٍ أو أيديولوجيا معينةٍ، ولكنها الآن ما عادت تعكسُ هذا البعد في صراعها الحالي على مناطق النفوذ وبؤر تجارة الكوكايين التي تغذيها بالمال ومقوّمات البقاء ميدانياً عن طريق التحكم بكارتيلات المخدرات وفرض الإتاوات على لوردات هذه التجارة، مع تقديراتٍ تشير إلى أن معدل دخل منظمةٍ مسلحةٍ مثل الفارك يناهز 342 مليون دولار سنوياً، 204 ملايين دولار منها هي حصيلة سيطرتها على بعض الخطوط التجارية النشطة لتصدير الكوكا.


أندرياس اسكوبار

 

الأهم هو أنّ الناس العاديين يدفعون ثمناً ليس أقل من أرواحهم في خضم هذا الصراع الذي أصبحت حتى القوات الحكومية جزءاً منه، فغدت كولومبيا مصنفةً اليوم بأنها الدولة الأعنف في العالم على الإطلاق، مع احتفاظها بأعلى معدلات القتل بنسبةٍ تقدر بـ 35 قتيلاً لكل 100 ألف نسمة.

كثيرون يفقدون حياتهم هناك دون مسوغٍ حقيقيٍ، لأنّ تعاظم نزعة القتل قد روّض الأنفسَ على احتمالِ هذه المشاهد البشعة فأرخصت كلّ غالٍ بما فيها أرواح الناس، ومن يتابعون بطولات العالم يعرفون جيداً «أندرياس اسكوبار» الذي ما كان قائداً ثورياً أو سمساراً للكوكا أو أي شيءٍ سوى أنه لاعب كرة قدمٍ، قاده حظه العاثر لأن يكون أحد لاعبي منتخبه الوطني في بطولة كأس العالم المقامة في الولايات المتحدة الأميركية العام 1994م، المسكين أدخل الكرة في مرمى بلاده عن طريق الخطأ، ولدى عودته، كانت رصاصات أحد تجار المخدرات تتربص به الدوائر، ثأراً لخسارته الفادحة في صفقة مراهنةٍ على فوز المنتخب الكولومبي في تلك المباراة التي خرجَ بعدها يجر أذيال الحسرة من الدور الأول.


جيرانٌ متوجسون

 

وإذا كانت مراهنةً بسيطةٌ لا دخل للاعب بها أصلاً يمكن أن تكلفه حياته، فما يجري بين الجماعات المتناحرة أبشع بلاشك، فالزلزال الكولومبي جعل الدول التي تحيط بها كفنزويلا والبرازيل والبيرو والاكوادور لا تغض طرفاً عما يجري هناك، تحسباً لانعكاساتٍ متوقعةٍ لما يحصل في بلدٍ تحكمه نخبةٌ يمينيةٌ لا تخفي تحالفها مع الولايات المتحدة الأميركية، وتختلف في لونها السياسي عما هو سائدٌ في قارةٍ يسارية الهوى واشتراكية الميول، وهذا ما زاد من مستوى الحذر والتوجس لدى جيرانها بعد أن دخلت أميركا على خط الصراع فعلياً بخطةٍ أطلقوا عليها «خطة كولومبيا»، هدفها الأساسي هو القضاء على تجارة المخدرات التي تقول أميركا إن 90 في المئة من المخدرات التي تدخل إليها تأتي من الأراضي الكولومبية، ولعلّ أصدق دليلٍ على التدخل الأميركي هو وجود ثلاثة أميركيين كانوا ضمن الرهائن الذين تمّ تحريرهم مع مرشحة الرئاسة «بيتانكور» في تلك العملية الشهيرة. في سبيل ذلك أنفقت الولايات المتحدة ما يقرب من 4.5 مليارات دولار لتدريب القوات الكولومبية وتزويدها بالسلاح والتقنيات اللازمة، كما تمركزت في قواعد عسكرية شكلت خضةً أخرى للدول القريبة، مما جعل القادة اليساريين من أمثال «هوغو تشافيز» في فنزويلا يعتبر محاربة المهربين ذريعةً واهيةً لأميركا، كي تجعل لها موطئ قدمٍ في القارة وتتموضع على حدود دولٍ لاتزال تعاني من مخلفات الحروب القذرة ونظرية الحديقة الخلفية.

وقد تحوّل هذا الخوف إلى حقيقةٍ عندما قصف الجيش الكولومبي الأراضي الاكوادورية إثر ملاحقته لمقاتلي الفارك الذين تسللوا لأراضيها، فقامت الاكوادور بعدها بإغلاق الحدود المشتركة وقطع العلاقات الدبلوماسية مع كولومبيا، ثمّ ظهرت ادعاءاتٌ أخرى بوجود معسكراتٍ للفارك داخل الجارة الاشتراكية فنزويلا، فما كان من «تشافيز» إلا أن شنّ هجوماً لاذعاً على نظيره الكولومبي السابق «ألفارو أوريبي» ناعتاً إياه بصنيعة الامبريالية، وأمر الجيش في خطوةٍ وقائيةٍ بالانتشار على طوال الحدود المشتركة، وكادت تنشب حربٌ ما هدأت طبولها إلا مع انتهاء ولاية أوريبي في أغسطس/ آب 2010م.

أرضُ الزمرد

ما يحزن في الأمر أن كولومبيا بمساحتها التي تقدر بمساحة كلٍ من ألمانيا وفرنسا وإيطاليا مجتمعةً ليست دولةً فقيرةً في مواردها الطبيعية أو البشرية، فلديها النفط والغاز الطبيعي، وهي من أكبر منتجي القهوة، كما تمتلك مقوماتٍ طبيعية وثرواتٍ معدنية أكثرها ندرةً هو معدن البلاتينيوم التي تعتبر أكبر مصدرٍ له، وليس آخرها أحجار الزمرد الزاهية التي تتفرد أرضها باحتوائها على أجوده ومخزونه الأكبر.

ومثلما عُرفَ عن كولومبيا، فإنها تعتبر أكبر منتجٍ للكوكايين - بعض التقديرات تشير إلى أنها تنتج 67 في المئة وحتى 80 في المئة من كوكايين العالم بأسره-، حيث احترفت صناعتها العصابات عبر إنشاء مختبراتٍ سريةٍ لتنقية نباتات الكوكا في الأمازون. إلى جانب ذلك، فإنها أكثر بلدان القارة تنوعاً حيوياً تمنحها إياه تضاريسها الجغرافية المتنوعة التي تنبسط في الخط الساحلي مع البحر الكاريبي شرقاً والمحيط الهادئ غرباً، وتخضر في مساحاتٍ شاسعةٍ من الغاباتٍ الاستوائية الماطرة، ثم تصبح وعرةً في الشمال بسلسلةٍ جبليةٍ عملاقةٍ حيث تنتصب جبال الأنديز.

أما على الصعيد البشري، فإنها منجمٌ إثنيٌ وعرقيٌ تتعايش فيه القبائل الهندية والسكان الأصليون مع ذوي الأصول الإفريقية والمهاجرين المنحدرين من أصولٍ إسبانيةٍ وأوروبية، وللأسف لم يبقِ الصراع على هذا الموزاييك البشري لأن الجماعات الإثنية أصبحت مستهدفةً بشكلٍ مباشر نتيجة استيلاء الجماعات على مناطقها التاريخية وتعرضها للقتل والتهجير.

تاريخ كولومبيا يبقى رسماً في بطون الكتب وتحفةً للباحثين، لأن الحقيقة المرة هي ما يحدث اليوم من تطهيرٍ وقتلٍ وتشريدٍ في هذه البلاد، حتى وصل بالمفوضية العليا للاجئين- UNHCR، أن تصف ما يجري في كولومبيا أنه «أسوأ كارثةٍ إنسانيةٍ في النصف الغربي من الكرة الأرضية».


شهودٌ على المذبحة

 

«في كل يومٍ هناكَ مذبحة، المسلحون لا يقتلون بعضهم، إنهم يقتلون الأطفال فقط، أطفال بلادنا»، هذا ما قاله بحسرةٍ المحقق الكولومبي جوزيف فرناندو. وكشاهدٍ على ما يجري، يتحدث «مارتينيز لاقونا» عن قصة نزوحه، هذا الكهل الذي يسفحُ غربتهُ أمام بحر مدينة كارتيجينا العريقة يسكن هو وزوجته وستةٌ من أفراد عائلته في منزلٍ من الصفيح والخشب، يهرسون بطونهم من الجوع والفاقة، ويقتعدون الأسرة المهلهلة.

ظلَّ لاقونا حتى العام 1997م في مزرعة عائلته جنوب المدينة، إلى أن هاجم المسلحون قريتهم وقتلوا ابنه وحفيده أمام ناظريه، «لم يعطوا سبباً لذلك، فقط قتلوهم» قال لاقونا. وبعد إمعانِ هذه العصابات في القتل وإشاعة الفوضى، وجد السكان أنفسهم مجبرين على النزوح وشقِّ طريقهم نحو أطراف المدن الكبيرة، حيث أسَّسوا مجتمعهم الصغير. تساءل «لاقونا» بحزن: إننا رغم ما يحدث هنا سعداء، لماذا؟، وأجاب هو بنفسه: لأننا آمنون!.

أما الطفلة جازمين، فقد تمددت على الأرض وأغلقت عينيها وطلبت أن يأخذوا لها صورةً كالضحايا التي تراهم كل يوم، تقول جازمين إن خلفَ الأشجار الكثيفة هناك قتلى كثيرون، ففي إحدى المرات، عذبوا أحد الرجال، عرّوه، قطعوه نصفين وتركوه إلى جانب جثث فتياتٍ كانت ملقاةً على الأرض، فكثيراً ما كانوا يغتصبونهنّ ويقتلونهنّ بعد ذلك.

عاصفةُ القتل اقتلعت القرويين وجزتهم جزاً. منذ العام 1985م فإن هناك ما يقرب من ثلاثة ملايين نازح، ربع مليونٍ منهم شردوا في العام 2004م وحده، بينما جرت أكبر عملية نزوحٍ قسري شهدتها كولومبيا بين عامي 1998 و1999م، حينما أُجبر أكثر من 600 ألف شخص على تركِ قراهم وبلداتهم في فيضانٍ بشريٍ كان سبباً في «التفكك الأسري وانتشار الأوبئة والأمراض والإدمان، إضافةً لتزايد معدلات الجريمة العامة» حسب تحليل لجنة ما بين الأميركتين لحقوق الإنسان، معظم هؤلاء اللاجئين نزحوا في الداخل الكولومبي، ويطلقُ عليهم «النازحون في الداخل IDP’s-» في اصطلاح اللجنة العالمية لحقوق الإنسان، ولكنهم حتى في أحزمة البؤس، يؤثرون أن يبقوا مجهولي الهوية «Anonymous»، خوفاً من أن يلحق بهم شبح الموت.


خريف الإثنيات

 

إضافةً لمشكلة اللجوء، تطفو مشكلة الأقليات والمجوعات الإثنية التي تقطن في أماكن نائية، وجدت فيها المنظمات المسلحة ملاذاً ومركزاً مهماً لشق الخطوط السرية، ففي الشمال قرب الحدود مع بنما، تتفرد الفارك بالسيطرة على قارعة الجسر الذي يربط الأميركتين، وهذا ما ولّد صراعاً عنيفاً بينها وبين المجموعات الشبه عسكرية التي سعت بكلِّ ما أوتيت من قوة للاستحواذ على المنطقة فقامت بقتل المدنيين من غير تمييز وأجبرتهم على النزوح أيضاً، مع أن القرويين الذين يعيشون في خاصرة العالم أعلنوا عن حيادهم في هذا الصراع، وقاموا بالاستنجاد بالحكومة وابتلعَت الريحُ صرختهم. قال أحدهم: «القتل هنا لا يتوقف، الكمائن والاختطاف». لم يجد نفس هذا الرجل تحليلاً لهذا الجنون سوى أن يقول: «إنهم يريدوننا أن نتركَ كولومبيا!». وجنوباً في عمق غابات نهر الأمازون، تختبئ مصانع تنقية أوراق الكوكا السرية في «بوتومايو»، محافظة الرعب في الجنوب، حيث تعيش مجاميعٌ بشريةٌ من القرويين الهنود الذين تمت تصفيتهم وتهجيرهم، بفعل الصراع الدموي للتحكم في دفق شرايين تجارة الكوكا بين أشرس العصابات، وهذا ما يهدد بفناء هذه الكتل الإثنية الصغيرة، وزوال طرق عيشهم التقليدية وثقافتهم الممتدة لقرونٍ خلت. يقول أحد شيوخ هذه المجموعات إنهم «ولسوء حظهم، فإن مناطقهم تعتبر ذات أهمية استراتيجيةٍ كبرى للمجموعات المسلحة، وأن شبابهم يتعرضون للابتزاز في سبيل تجنيدهم لصالح العصابات بالقوة، لذلك فالهجرة أصبحت حلاً مفروضاً على الجميع».

وبالنسبة للمجاميع الإثنية التي تقطن في المناطق الحدودية مع الإكوادور فإنهم أيضاً يتعرضون للضغوط نفسها، ويعرب أحدهم عن خشيته على الأرض التي ربما تخسرها الجماعة جراء تفاقم الأزمة: «أرضنا هي كل شيء، عندما نخسر أرضنا فإن مجتمعنا وثقافتنا حتماً إلى زوال، لقد خسرنا أطفالنا، خسرنا كل شيء، أصبحنا فقراء، نحن الآن رحّل، اليوم هنا وغداً نختفي»، ومثله أشار أحد أبناء المجموعات للعقود الملونةِ الناصعة التي تحيط بعنقه وهو يقول: قبل سنوات، لم نكن نحتاج لأوراقٍ ثبوتية، ما نحتاجه للتعريف بأنفسنا هو هذا فقط، فهذه الأيام عندما لا توجد لدى أحدٍ من هؤلاء أوراق ثبوتية فإنه ببساطة «غير موجود» ولن يستطيع في أسوأ الأحوال أن «يوثق اسمه حتى في سجلات الموتى».


حتى لا نعيشها

 

ويبدو أن العالم الذي أصمته إيقاعات الحرب في أكثر من اتجاه، لن يعير أحداً هناكَ آذاناً صاغيةً، طالما هنالك منتفعون وسماسرةٌ للحرب يغذيهم الدم المهراق بمقومات البقاء أعلى الهرم أو حتى وسطه على أسوأ تقدير، لأن أي حلٍ للصراعات سيسقطهم من علٍ حتى يداسون بالأقدام من غير ريب.

فالصراعٍ وإنْ برز في شكله الأولي فكريٍاً أو ايديولجياً أو حتى تنازعاً على الحكم؛ فإنه لا يلبث وأن يدخل في دائرةٍ عبثيةٍ مفرغةٍ حين يصبح الانتقام والثأر هو المحرك الأساس، ثم إذا تلاشت الدوافع الرئيسية وهدأت عوامل الاستقطاب فإنه يصبح سعياً مجرداً لتحسين مواقع التفاوض والمساومة عن طريق إحداث خلخلةٍ في موازين القوى واكتساب أكبر قدرٍ من الثروة والاستحواذ على مناطق النفوذ كما يحدث في كولومبيا الآن، بعد أن أضاع الكولومبيون فرص المصالحة السابقة كالتي قام بها الرئيس «بليزاريو بيتانكور» في 1982م والتي فشلت بعد تدخل الجيش، ثم تلك التي جرت إبان حكم الرئيس أندريس باسترانا العام 1998م وفشلت أيضاً في احتواء أكثر الجماعات فاعلية على الأرض ولم يكتب لها النجاح. أصبحت كولومبيا ساحةً متقدمةً لتصفية حساباتٍ كبرى، ينشط فيها اليمينٍ النيوليبرالي متمثلاً بأميركا وحلفائها، ويسارٍ اشتراكي ممثلاً بجاراتها التي يجاهر رؤساؤها بعدائهم للسياسات الأميركية في القارة مع حلفائهم التاريخيين من المنظمات الثورية المسلحة، كلٌّ يسعى لمقارعة خصمه وفرض أنموذجه والتمدد أفقياً وعمودياً بعد أن وجدوها رخوةً وأرضاً خصبةً لذلك.

والخشية أن تكون منطقتنا وهي تهتز في مخاض الحرب والقتل الذي دخلته من أبشع أبوابه، أن تلجَ في نفس الدورة العبثية بعد أن فقدت تحصينها الداخلي، وبرزت بوادر الانشقاق، ودفنت الدعوات الجادة للمصالحة والمصارحة، في الوقت الذي تعمل فيه آلات الاستقطاب والتعبئة الجبارة على شحن الأنفس بدعوات النقاء الكمي والنوعي اللامتناهي عبر الفرز الإثني والطائفي والمذهبي والاحتطاب بجماجم الأبرياء.

وإزاءَ اتساع دائرة العنف في العالم بأسره والضجيج القادم من جميع الجهات، تستحق صرخة كولومبيٍ بائسٍ في أقصى الأرض أن تكونَ شعاراً يردده المقهورون وضحايا النزق البشري وهم يواجهون كل رغبةٍ شريرةٍ لقتل الإنسان أياً كان انتماؤه فيقولون مثلما قال: إننا عندما نكون عرضةً لبنادقهم، فإنهم بحقٍ لا يهاجموننا وحدنا، إنهم يقتلونَ الإنسانية بأجمعها.


كولومبيا في سطور

 

التسمية: الجمهورية الكولومبية

العاصمة: بوغوتا

السكان: 44.91 مليون نسمة

الموقع: تقع كولومبيا في الشمال الغربي من أميركا الجنوبية، مطلةً على المحيط الهادئ والبحر الكاريبي، وتشترك في حدودها مع: فنزويلا شرقاً، والبيرو والاكوادور غرباً، والبرازيل جنوباً، كما تشترك مع بنما شمالاً في الجسر الذي يربط الأميركتين «الشمالية والجنوبية» ببعضهما البعض.

المساحة: تقدر مساحتها بـ 1.14 مليون متر مربع بما يساوي مساحة كلٍ من: فرنسا، ألمانيا وإيطاليا مجتمعةً، وتتوافر على تضاريس متنوعة كالخطوط الساحلية الدافئة على امتداد الكاريبي شرقاً والمحيط الهادئ غرباً، كما تكثر فيها الغابات الاستوائية والمساحات الخضراء، إضافةً لاشتراكها في سلسلة جبال الأنديز الوعرة مع جارتها الشمالية بنما.

المناخ: يصنف مناخها على أنه استوائيٌ معتدل، كما تتمتع بوفرة الأمطار التي يمنحها إياها موقعها الجغرافي القريب من خط الاستواء.

الموارد الاقتصادية: النفط، الفحم، الغاز الطبيعي، الفحم، الحديد الخام، النحاس، النيكل، الذهب، الفضة، القهوة، الزراعة، كما تعتبر أكبر مصدرٍ لمعدن البلاتينيوم وأحجار الزمرد النفيسة على مستوى العالم وأكبر مركزٍ لزراعة الكوكايين فيه.

تاريخ: منذ القرن السادس عشر ظلت كولومبيا مستعمرةً إسبانية إلى أن نالت استقلالها عندما أعلن المحرر سيمون بوليفار في العام 1819م تمتعها بالسيادة الكاملة وقيام كولومبيا العظمى التي تشمل كلاً من: فنزويلا، بنما والاكوادور، اللواتي انفصلن تباعاً عن الوطن الأم وأعلنّ استقلالها فيما بعد.

نشأ فيها حزبان منذ 1848م هما حزبا الليبراليين والمحافظين اللذين كانا دائمي النزاع على السلطة، حيث تطور النزاع بينهما لحد الحرب الأهلية في حرب الألف يوم بين عامي (1899- 1902م)، ثم ما لبث أن تفجرت مرةً أخرى مع اغتيال مرشح الحزب الليبرالي «إليزير غيتان» العام 1948م، فحصدت معها أرواح مئتي ألف قتيل، فضلاً عن تهجير الملايين في صراعٍ استمر حتى اليوم بين القوات الحكومية ومقاتلي اليسار من أمثال: «الجيش الثوري الكولومبي- الفارك» والأجنحة اليمينية المسلحة كالقوات الشبه عسكرية والمعروفة بـ Paramilitaries.

العدد 3102 - الجمعة 04 مارس 2011م الموافق 29 ربيع الاول 1432هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً