العدد 3123 - الجمعة 25 مارس 2011م الموافق 20 ربيع الثاني 1432هـ

لماذا نَكتب؟

ياسر حارب comments [at] alwasatnews.com

اهتم الإنسان منذ بداية التاريخ بتدوين ما يريد أن يقول، فبدأ السومريون بالكتابة المسمارية التي كانت عبارة عن خطوط مرسومة في الطين أو في العظم أو في المعادن، ثم جاءت مرحلة الكتابة التصويرية التي كانت على هيئة أشكال وحيوانات، ومذ ذلك الحين، لم يكُفّ الإنسان عن تدوين بَوْحه حتى لا يُطوى ذِكْرُه من سجلات التاريخ.

كلما مررتُ بين الكتب تساءلت: لماذا يكتب الإنسان؟

ولماذا لم يكتفِ بالاحتفاظ بكلامه لنفسه؟

هل هو مُجبَرٌ على البوح أم أنّه يفعل ذلك باختياره؟

يعتقد البعض أن الكتابة هي إحدى أنواع الجنون، ولكن كيف يكتب المجنون للعقلاء؟

إن الكتابة هي إحدى المكوّنات الوجودية التي تشكل حياة الإنسان، فكلما كتب أحدنا أعاد رسم نفسه، وأحياناً، يُعيد رسم الآخرين، ليصبح بعد مدة جزءاً من حياتهم.

قيل قديماً: "اختر الكاتب كما تختار الصديق" فالكاتب الذي تثق به ترمي له بزمام عقلك، وتأتمنه على عواطفك، حتى لا ترى ولا تسمع إلا به، فبعض الكُتّاب يمنحنا كلامه إيماناً في الحياة، وبعضهم يمنحنا إيماناً في أنفسنا.

إن من يكتب يترك وراءه قبساً يهتدي به السائرون في طريق الحقيقة، فقد لا تستطيع أن تُدلّ الناس على الصواب، ولكنك تستطيع أن تدلّهم على الطريق المؤدي إليه. نكتب لنكتشف العالم، ونسبر أغوار الوجود، ونكتب لنعُبّرِ عَن أنفسنا، أوربّما، لنعْبُرَ إليها. ليس بالضرورة أن تكون صحافياً أو روائياً أو مفكراً لكي تكتب، ويكفيك أن تشعر حتى تبدأ بالكتابة. فالكتابة حالة شعورية تُصيب الإنسان دون أن يدري لماذا، ولكي يعرف الإجابة فعليه أن يكتب ثم يبحث بين السطور. لا يُهم أن تحرك مشاعر الآخرين لتكون كاتباً ناجحاً، والأهم هو أن تحرك الأفكار الراكدة في عقولهم، فأرقى عمل يمكن لكاتب أن يحققه هو تعليم الناس كيف يفكّرون.

الكتابة عملٌ فنّي، وبعض ما يكتب يستحق أن يُعلَق في المتاحف ليستمتع به الناس. فالكاتب يرسم بكلماته، وينحت بقلمه، ويلوّن الصفحات بعباراته. لا يهم نوع الألوان التي تستخدمها، ولكن احرص على أن تكون صالحة للتلوين وليست للدعاية والإعلان. بعض الكتّاب يلوّن الأرض، وبعضهم يلوّن السماء، وبعضهم يلوّن الأمنيات التي تصعد بينهما. إن من يكتب عن الذكريات يفنى مع موته، ومن يكتب عن الأمنيات يعلّمنا بعد موته أكثر مما يعلّمنا في حياته.

لا يملّ الكاتب من الاهتمام بنصّه والعناية بشكله مثلما يعتني بمضمونه، لأنه يتعامل مع النص ككائن حي، يُراعي أوقاته وظروفه، ولا يجبره على ما لا يُطيق، وكلما كبر النص معك، صرتما أكثر نضجاً وأكثر قدرة على مواجهة الحياة. إن الكاتب الحقيقي هو الذي يطرح الأسئلة التي يخاف الناس من طرحها، وهو الذي يستكشف الجوانب التي يصر المجتمع على حجبها، إنه مثل المغامر الذي يذهب إلى آخر العالم حتى يعود بحكاية يرويها لمن بعده.

إن أجمل أنواع الكتابة هي التي تعيد تعريف الأشياء لتعيد تقديمها إلى البشرية بصيغة جديدة، أو بالأحرى، بصيغتها الحقيقية، فمعظم الحقائق تختبئ خلف التعريفات، وتندس بين معاني الكلمات، والكاتب الفذ وحده من يستطيع أن يضع التعريفات في نصابها الصحيح، حتى وإن تكسّرت في سبيل ذلك أقلامه، لأنه يخاف على مجتمعه أكثر مما يخاف منه. الكتابة هي السعي للوصول إلى الحقيقة، ومن لم يصل إلى الحقيقة فعليه ألا يخترعها أو يوجدها، لأن الحقيقة أزلية الوجود، لا يمكن إعادة إصدارها أو مصادرتها.

يسعى الكاتب كي يضع حياته في كتاب، ويسعى القارئ كي يجد حياته في كتاب، ومن قرر أن يحفظ أسراره في كتاب فإنه لا يدري بأنه يؤجل كشفها لبعض الوقت فقط، لأن الأوراق أكثر شفافية من القلوب.

بعض النصوص التي نقرأها تؤثر فينا لمدة طويلة، تملأ صدورنا بالأمل، وتدفعنا إلى العمل، والنصوص التي لا تفعل ذلك هي نصوص ناقصة، تنتقص منّا كلما استمرينا في قراءتها.

إن مهمة الكاتب تكمن في النظر فيما يجب أن يكون وليس فما كان وما هو كائن فقط، لأن الكاتب مسئول عن شقّ الطرقات وليس عن ريّها، ولذلك عليه ألا يضيع وقته في السعي لإصلاح عادات المجتمع، فالعادات كما يقول ابن خلدون هي كالظواهر الطبيعية، يَخضع لها الناس دون أن يستطيعوا أن يُخضعوها لهم. ولذلك فإن الكاتب الحصيف هو الذي يسعى لإصلاح الأفكار ومحاورتها، فالفكرة الصحيحة قادرة على صناعة مجتمع جديد، بعادات جديدة تشبه المستقبل وتنتمي إليه.

لستَ في حاجة إلى معرفة قواعد الكتابة لكي تكتب، اكتب الآن وتعلم مع الوقت، فالمهم هو أن تعتاد تدفق الحروف من بين يديك لا مِن خلفك، ولا تخَف مما تكتب، فمن يخاف مِن حروفه لا يستحق أن يحمل قلماً. عندما يبدأ أحدنا بالكتابة فإن نَصّه يكون جزءاً منه، وبعد أن ينتهي يصبح هو جزءاً من ذلك النص. من يكتب يتبرّع بشيء مِن روحه للبشرية، ولذلك فإنه لا يموت، فكلّما جاء أحدٌ بعده وقرأ شيئاً من أعماله فإنه يعيد إحياءه من جديد. الكتابة فعلٌ مُقدَّس لأنه بدأ في السماء، ولذلك علينا ألا نُدنّسها في الأرض. سألني أحدهم قائلاً: لماذا نَكتب؟ فقلتُ له: "نكتب حتى نترك أثراً، وحتى لا نكون أثراً"

إقرأ أيضا لـ "ياسر حارب"

العدد 3123 - الجمعة 25 مارس 2011م الموافق 20 ربيع الثاني 1432هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً