العدد 3132 - الإثنين 04 أبريل 2011م الموافق 01 جمادى الأولى 1432هـ

المجتمع والنظام السياسي في اليمن... الفاعلون غير الرسميين في اليمن (2)

فؤاد الصلاحي comments [at] alwasatnews.com

.

وواقع الأمر أن سلطة الرئيس هي النافذة دون اعتراض من السلطات الأخرى التي تكتفي بدور التابع والمنفذ لسياسات وقرارات ورغبات الرئيس، فمجلس الوزراء ليس سوى سكرتارية تنفذ أوامر الرئيس، أما السلطة القضائية فهي غير مستقلة، لأن قيادتها تعينها السلطة التنفيذية. وكذلك الحال مع السلطة التشريعية التي ينتمي غالبية أعضائها للحزب الحاكم، مع وجود أقلية من المعارضين والمستقلين لا تحظى بأي دور فاعل في البرلمان، لتتم بذلك سيطرة الرئيس عبر الحزب الحاكم على مختلف السلطات الرئيسية في الدولة.

ثالثاً: الأزمات والعيوب التي ولدت مع الدولة الحديثة

لعبت الدولة في اليمن دوراً إيجابيا في مختلف عمليات التحديث التي شهدها المجتمع، خاصة في مجالي التعليم والبنى التحتية. غير أنها ومنذ بداياتها الأولى في الستينيات ارتبطت الأزمات بها وتراكمت تدريجيا حتى أصبحت «الأزمة» سمة تميزها ولم تعد قادرة على تجاوزها أو إدارتها.

ويبدو أن النظام السياسي اليمني، خاصة في السنوات العشرين الأخيرة، بدأ يتعايش مع هذه الأزمات ويعيد إنتاجها، في حين ما فتئت مؤسسات الدولة تنتقل من ضعف إلى ضعف، بسبب الفساد والرشوة والمحسوبية ونفوذ مشايخ القبيلة وكبار قادة الجهاز الإداري، ونفوذ قادة الجيش والأمن، لتؤكد جميعها أن الدولة في اليمن منذ تشكلها الحديث والمعاصر لم تقم على أساس المواطنة وسيادة القانون بل كانت ترتبط بشخوص النافذين فيها على أساس قبلي ومذهبي، الأمر الذي أفرغ الدولة من مضمونها المعلن في أهداف الثورة وفي نصوص الدستور. (انظر في ذلك للمقارنة مع دراستنا المعنونة «القبيلة اليمنية... إعادة إنتاج اجتماعي وتموضع سياسي» دراسة قدمت إلى مؤتمر القبيلة والعشيرة في الوطن العربي /عمان – الأردن/ فبراير 2009).

وبذا أصبح الصراع على السلطة والنفوذ وإقصاء الآخرين وإضعاف تمثيلهم السياسي سمة تميز المشهد السياسي العام، انطلاقا من أن من يصل إلى السلطة بأي وسيلة يحكم سيطرته على الثروة والمجتمع. وهذا إن دل على شيء فإنه يدل على أن الدولة لم تعد تعبر عن كل المواطنين وأنها لا تمثلهم بقدر تعبيرها وتمثيلها لمجموعة مسيطرة على السلطة والثروة تميل لعقد تحالفات مع مجموعات أخرى من مختلف المناطق اليمنية لتعزيز سيطرتها فقط، في حين تقدم ذلك على أنه مشاركة في الحكم، وهذا غير صحيح البتة.

فالدولة اليمنية التي رفعت شعار المساواة والحرية واعتماد القانون لم تعكس شعاراتها هذه في أدائها أو في خطابها السياسي، بل ظلت الفجوة تتسع دوما بين خطاب سياسي يتضمن الكثير من المثاليات وواقع يعاني أصحابه من التمييز والإقصاء، لتزداد بذلك الفجوة وتنعدم الثقة بين المجتمع والنظام، الأمر الذي ترتب عليه ظهور حالة من الاغتراب السياسي (إحساس الأفراد بأن النظام لا يمثلهم ولا يعبر عنهم) تجلت بعمليات إحياء للجهوية والمناطقية والمذهبية بل والدعوة إلى فك الارتباط بين الشمال والجنوب.

في هذا السياق يمكن القول إن مجمل الأزمات والعيوب التي ترافقت مع النظام السياسي شكلت مؤشرات قياسية اعتمدت في التحليل السياسي وتوصيف الدولة في اليمن بأنها دولة فاشلة، باعتبار أن الدولة لم تنجح في وظيفتها الإنمائية، ولم تحقق الاستقرار السياسي والأمني، وتعددت الحروب داخلها مثل الحرب مع الحوثيين، والحروب بين القبائل نفسها، أو بين القبائل والدولة، إضافة إلى ضعف دور القضاء، وتفشي الفساد في كل دواليب الحياة.

ومن أهم عيوب وأزمات الدولة في اليمن أنها لا تتعامل مع المواطنين مباشرة من خلال مؤسسات الدولة المدنية والقضائية والخدمية، بل من خلال واسطة المشايخ، مما عظم من دور هؤلاء في مقابل تقزيم أدوار مؤسسات الدولة، وبدلا من أن يسود القانون ساد التحايل عليه وإضعافه من خلال أوامر عليا ضمن سلسلة من الاستثناءات التي أصحبت قاعدة في التعامل اليومي، وبدلا من اعتماد منظور ثقافي يبلور خطاب الدولة وفلسفتها وفق رؤية حديثة، تم إعادة إنتاج منظومة الثقافة القبلية وتعظيم قيمتها ضد ثقافة الدولة.

وهنا أقول بكلمة واحدة، إن النظام السياسي في اليمن اعتمد سياسات أضعفت مرتكزات الدولة الحديثة وغيبت منظومتها الثقافية. وفي هذا الصدد يرى بعض الكتاب الغربيين أن المؤسسات السياسية الحديثة في اليمن قامت على البنى التقليدية التي عملت بدورها على إعاقة التقدم السياسي والاجتماعي، وأن القبائل اليمنية التي تعبر عن البنية الاجتماعية التقليدية استطاعت أن تبسط نفوذها على الحكومة وأن تردد مصطلحات وقيما حديثة كانت حكرا على الدولة (انظر ما تناوله الكتاب والباحثون الغربيون ومنهم: مايكل هدسون/ التحولات السياسية في اليمن – بحوث ودراسات غربية 90- 94)/ المعهد الأميركي للدراسات اليمنية/ صنعاء/ 1995/ ص 195- 209). وذلك يعني في دلالته أن القبيلة كمؤسسة اجتماعية تقليدية تسمح للتحولات السياسية الحديثة بأن تأخذ مكانها، لكنها لا تتيح لهذه التحولات أن تتجذر وتتمأسس في الواقع وفق شروطها الخاصة، وهذا الأمر يعكس النزعات الذاتية للقيادات التقليدية وبعض القيادات الحديثة التي تنقاد لنزعاتها التسلطية، حتى تمادت في نزعاتها إلى حد القول بعدم جاهزية اليمن للديمقراطية.


رابعاً: العصبية التي تعتمد عليها السلطة

ظهرت في المراحل السابقة من بناء الدولة في اليمن نخب تعتمد خطابا سياسيا يبشر بالمواطنة ودولة القانون والتنمية، وكان هؤلاء خليطا من مجموعات عسكرية ومدنية أخذت مشروعيتها من دورها في بناء الدولة وحماية منجزات الثورة، لهذا لم تسع للارتباط العصبوي ونسج مفاصل السلطة حول عصبيتها، بل كان النضال الرومانسي هو ملمحها الأساسي (هذا الأمر ينطبق على النخبة في الشمال والجنوب حتى منتصف السبعينيات). ثم أخذت العصبية تعزز حضورها في الحقبة التالية منذ بداية الثمانينيات إلى أن ترسخت أكثر مع دولة الوحدة، حيث أحكم الرئيس علي عبدالله صالح - مع مجموعات من أسرته وقبيلته من خلال مواقع عسكرية وأمنية وإدارية - سيطرته على دوائر صنع القرار وترك مساحات محدودة لآخرين تم إشراكهم على أساس أنه تمثيل سياسي واسع، والحقيقة أن هؤلاء هم جزء من تركيبة سياسية تعتمد التحالف مع شركاء آخرين ضمن مسار محدد يقرره الرئيس، الناظم الأساسي للتحالف ومساره العام والخاص.

فقبيلة حاشد التي ينتمي إليها الرئيس يتعزز دورها من خلال نخب مختارة وفق محددات الولاء للرئيس، ويعملون وفق منطق الطاعة مقابل الحصول على امتيازات مادية واجتماعية وسياسية، وهنا يتم إعادة إنتاج القبيلة وتعظيم دورها وفاعليتها، وتعميم منظومتها الثقافية بزعم أصالتها وتعبيرها الحقيقي عن المجتمع اليمني.

وهذا أمر مجانب للصواب، وهو تعميم لنموذج مصغر لا يمثل اليمن الذي تتعدد فيه التكوينات القبلية والعشائرية وتختلف في الكثير من ملامحها الأنثروبولوجية ثقافيا وبنائيا، الأمر الذي يجعل التعميم لنموذج قبلي من باب تكريس زعامة قبيلة وسيطرتها سياسيا، وإجبار الآخرين على الانضواء تحت زعامة هذه القبيلة ضمن عملية احتواء وإدماج (انظر في ذلك: رودو كناكيس: القبيلة الزعيمة في اليمن في كتاب/ ديتلف نيلسون «التاريخ العربي القديم» ترجمة فؤاد حسنين/ دار المعارف- القاهرة/ 1958).

والحقيقة أن السلطة اليمنية تتشكل من تحالف رموز عسكرية وقبلية وتجارية ورجال دين، تتداخل في بنية اجتماعية واحدة من خلال الجذور القبلية والمذهبية التي تشمل العسكر والقبيلة والتجار حيث غالبيتهم من قبيلة حاشد. وانضم إليها آخرون من قبيلة بكيل ومن محافظات تعز وعدن وحضرموت وتهامة وفقا لتداخل المصالح - ووفق علاقات المصاهرة المنظور إليها قصديا من زاوية سياسية - والتزاما بل وتسليما بقيادة وزعامة الرئيس لهذا التحالف، انطلاقا من كونه رئيس الدولة ورئيس الحزب الحاكم والقائد العام للقوات المسلحة.

هذه العصبية الحاكمة في العقود الثلاثة الأخيرة شكلت ولأول مرة في تاريخ اليمن ما يمكن أن نسميه احتكار القبيلة «لمنصب الرئيس وقيادة المؤسسات العسكرية»، حتى ظن البعض أنه قد وقر في وعي المجتمع وقناعاته التسليم بحاشدية الرئاسة ومذهبيتها. ولكن على العكس من ذلك أصبح الأمر محل نقد في مختلف الصحف الحزبية والخاصة، مما يعني تشكل وعي مضاد لهذا الاحتكار السياسي ومن ثم الدعوة إلى فك الارتباط بين منصب الرئاسة ومرجعيته القبلية والمذهبية. وأكثر أوجه النقد والتعبير السياسي المباشر رفضا لهذا الاحتكار جاءت من خلال الحراك الجنوبي مع العلم أن الحزب الاشتراكي كان قد سبق في توجيه هذا النقد العام 1994.


خامساً: الشرائح المتضررة والمستفيدة من السلطة

إن تزايد اندماج اليمن في النظام الاقتصادي الرأسمالي العالمي وتغلغل مفردات هذا النظام في المجتمع نتج عنه تخلخل في التركز الجغرافي للسكان واهتزاز البناء الاجتماعي التقليدي، فمع اتساع السوق الوطنية المستوردة وتزايد حجم الهجرة من الريف ومع تزايد عمليات التحديث والتنمية التي قادتها الدولة في العقود الأربعة الماضية ترتب على جميعها ظهور ثلاثة مستويات من الحراك الاجتماعي: الحراك الجغرافي (التنقل السكاني) والحراك المهني (الاشتغال بأعمال ومهن جديدة)، والحراك التعليمي (من خلال المدارس والجامعات والبعثات الخارجية). ولما كان تغلغل العلاقات الرأسمالية الحديثة من ركائز نشأة الطبقات الحديثة وتبلورها، فهذا التغلغل لم يكن شاملا ولم تصاحبه تغييرات جذرية في القاعدة المعرفية والعلمية والتكنولوجية، ولم تتسع القاعدة الإنتاجية الاقتصادية. لكن يمكن القول بوجود طبقة وسطى حديثة وبداية واضحة لطبقة عاملة (طبقة في طور التكوين) في بداية مستوياتها التكوينية والتشكل البنائي الحديث، كما لا يمكن القول بوجود طبقة رأسمالية بل هناك «بيوتات» تسمي نفسها رجال الأعمال أو القطاع الخاص (يمكن القول في اليمن بوجود بيوت أو أسر تجارية لها دور فاعل في هذا النشاط منذ بداية الستينيات وأخرى تشكلت مع حقبة الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي، ولكنها لا تشكل طبقة متكاملة ولا يمكن تسميتها برجوازية وطنية تستطيع أن تقود التحول الاقتصادي والإنمائي في اليمن بل هي تعيش وتزدهر من خلال دعم الدولة لها).

ومع ذلك يمكن الإشارة بوضوح إلى الطبقة الوسطى التي تتبنى وتطرح أفكارا جديدة عن الليبرالية والإصلاح السياسي والاقتصادي وبناء الديمقراطية والمجتمع المدني، ومنها تشكلت التنظيمات الحزبية بمختلف أيديولوجياتها (القومية والاشتراكية والإسلامية)، والتنظيمات الجمعوية (نقابات وجمعيات ومنظمات) بل وقادت النضال الوطني ضد الاستعمار في الجنوب وضد الإمامة في الشمال، والكثير من موظفي الدولة مدنيين وعسكريين هم من أبناء هذه الطبقة.

أما الفئات المهيمنة في قمة السلم الاجتماعي الاقتصادي والسياسي فهي امتداد حديث للبنى القبلية في إطار تحالف بينها مع رموز القوى الحديثة، وفي هذا السياق ظهر إعادة تحالف بين العناصر المتبقية من القوى التقليدية مع السلطة السياسية في الدولة وبعض كبار القطاع الخاص، وهنا ظلت الدولة متحكمة في المجتمع من خلال تحكمها المنفرد بالاقتصاد مع تغيير في الممارسات والتحالفات (انظر للمقارنة في هذا الصدد مع: خلدون النقيب «الدولة والمجتمع في الخليج والجزيرة العربية» مركز دراسات الوحدة العربية/ بيروت/ 1988)

إقرأ أيضا لـ "فؤاد الصلاحي"

العدد 3132 - الإثنين 04 أبريل 2011م الموافق 01 جمادى الأولى 1432هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً