العدد 3133 - الثلثاء 05 أبريل 2011م الموافق 02 جمادى الأولى 1432هـ

الفراشة

سألَتْهُ: متى تتحسن الأحوال؟

أجابها ببرود كعادته: قريباً إنْ شاء الله.

- ومتى يأتي هذا القريب؟

- كلُّ قريبٍ آتٍ لا محالة. لا تستعجلي. الصبرُ طيب!

- يا رجل منذ عشرين عاماً وأنت تعِدُني وتُخدِرني. إلى متى؟

- احمدي الله. ماذا ينقصك؟ حالنا أفضلُ من غيرنا بألف مرة.

- الحمد لله على كل حال. ينقصني كلّ شيء. وحالُ غيرنا أفضل منا ألف مرة.

- بالله عليك، ماذا ينقصك من ضرورات الحياة؟

- ينقصنا سيارة كغيرنا من خلق الله. أليس من حقي وحق أولادك أنْ نذهب ونجيء، ونشمّ الهواء؟

- السيارات كثيرة، والمواصلات متوافرة.

- وينقصنا بيتٌ لنا، ملكنا، خاصتنا، نشعرُ فيه بالدفء والأمان والاستقرار.

- وما الداعي لبيتٍ تدفعين فيه كلَّ دمك، ثم ترحلين منه لجار سوء، أو خللٍ في المجاري، أو لعيوب لا يعلمها إلا الله؟

- لا فائدة من الحوار معك، فأنت تأخذُ الأمور ببساطة واستخفاف. دعني أذهب لأكمل عملي.

هذا الحوار يتكرر كفيلم هندي، أو كوعد زعيم عربي شعبه بالرخاء، أو كأغنية سمجة لا يجد سائق حافلة لها بديلاً.

الدنيا لا تكتمل لأحد، ولا تُعطى وافية لمن يطلبها، فلكل نصيب منها، فإمّا علم واسع دون مال، أو مال وافر دون علم، أو علم ومال على قدر الحال.

وهبها الله علماً واسعاً ومدهشاً في مجالات كثيرة، لا تدخل مجالاً إلا خرجت منه وقد ألمت بجميع جوانبه وخوافيه، حتى بزّت أقرانها، ولم ترض بغير القمة لها مستقراً، وحيدة أو مع آخرين.

طموحها العلمي دون حدود، وكان النجاح والتوفيق حليفها، إلا انْ حالت ظروف قاهرة دون ذلك. تتذكر بألم عميق وجرح مازال ينزُّ كيف تحطم حلمها في الثانوية العامة بسبب مشاكل أسرية كانت ضحيتها، ورغم نجاحها الذي أدهش من حولها، إلا انه كان بالنسبة لها نجاحاً بطعم العلقم، فلم يكن هذا حلمها، وما كانت تظن يوماً أنها ستهوي إلى هذا الحضيض!

كان حلمها، حلم الطفولة، حلم أيامها ولياليها، حديثها الهامس بينها وبين نفسها، سرها الحميم مع صويحباتها، أن ترتدي المريول الأبيض طبيبة، ترفل فيه مزهوة، تقدم روحها للمرضى بكل حب وتفانٍ؛ تجتث ألماً، تزرع أملاً، تمسح دمعة، تعيد للأجساد العليلة نضارتها وألقها وحيويتها. ولكن هيهات هيهات، فقد تحول الحلم إلى كابوس أثقل روحها، لأنَّ الأحلام إن تهاوت، فإنها تصبح حجر عثرة، قيداً، مصيدة، محرقة!

بعد عشرين عاماً من توقفها عن الدراسة، عادت بقوة، وسطرت صفحات من المجد والتفوق، وهي الزوجة والأم وربة البيت، وما يتطلبه ذلك من علاقات وواجبات اجتماعية ضحت بأكثرها في سبيل أنْ تحقق جزءاً من حلمها العريض.

أولادها كانوا جزءاً من حلمها، كانت تأملُ أنْ يكونوا مثلها تفوقاً وتميزاً، وقد نجحت إلى حد بعيد في ذلك، ولم تألُ جهداً أنْ توفر لهم أسباب التفوق والنجاح، ولم تكن ترضى بأي نجاح، فإمّا القمة وإلا فلا!

بين الحين والآخر تعيدُ على مسامع زوجها وأولادها قصتها مع الفراشة، فقد كانت في نزهة مع أسرتها ذات طفولة بعيدة، وفي أثناء لعبها لفتت أنظارها فراشة جميلة، فطاردتها، وابتعدت الفراشة، وهي تلاحقها بشغف وشقاوة، تريد الإمساك بها، ولما نجحت الفراشة في التخفي والتخلص من مطاردتها، حزنت كثيراً، وخاطبتها معاتبة: لماذا هربت مني؟ لا أريد أن أؤذيك. أريد أن أكون مثلك، محلقة في الأعالي. أتمنى أن أكون بخفتك وسرعتك وبساطتك وألوانك الزاهية، أن أكون حرة دون قيود، أن أعانق الهواء النقي، وأستريح على أوراق الشجر، وأبتعد عن كل هذا الزيف والخداع.

تلفتت حولها، وأدركت أنها أضاعت طريقها، ولولا أنهم انتبهوا لغيابها لضلت طريقها، وربما كان لحياتها مسار آخر مختلف.

في عملها أكملت مسيرة التفوق والتفرد، فجلبت لنفسها الغيرة والكيد، وبسبب بساطتها وعدم انشغالها بسفاسف الأمور، وتوافه النساء، فقد وضعت نفسها في مواقف محرجة، لم يخرجها منها إلا تلقائيتها وعفويتها التي كانت مدار تندر وتهكم زميلاتها، فكيف يتجمع التفوق والعفوية؟ والتميز والبساطة؟

الأحلام تثقل كاهلها، تؤرق ليلها، تضعها في دوامة لا تهدأ، تسبب لها صداعاً مزمناً، مشغولة بالمستقبل وتقلبات الأيام. الشعور بالحرمان يرافقها في معظم أيامها، ترى أنها أقل حظاً من غيرها، بل لا حظ لها على الإطلاق، فالدنيا تخاصمها، والنقود تتفلت منها، ولا تجد فيها قريناً تركن إليه، والصحة همٌّ يضعضع حياتها. ولولا بقية من إيمان ورضاً بما قسمه الله لها، لتمنت أن تتخلص من هذه الحياة التي تأبى أن تعقد معها سلاماً أو حتى هدنة مؤقتة!

يسألها: هل ترضين أن تكوني غنية تملكين كل شيء كأم رأفت وأولادك يزحفون من صف إلى صف؟

تجيب: لا يسعدني ذلك، فما تفيدني كل أموال الدنيا، إن كان أولادي هملاً، ولكن...

- بدون لكن، فإما غنى وإما علم، ولا أظنك ترضين بحال بين الحالين.

- لماذا تغلق كل الأبواب في وجهي؟

- ليست مهمتي أن أغلق أو أفتح، ولكن الأمور تسير كذلك، والدنيا لا تعطى لأحد كاملة مكملة، فلابد من نواقص.

تنهي حواراً تعرف نهايته مسبقاً، فلا أمل يلوح في الأفق، ويبدو أنَّ الشقاء دمغة لا فكاك منها، ونصيب لا مهرب منه.

عدوى التفوق والتميز سرت إلى طالباتها كتيار كهربائي، وغزا أريجها عقول الطالبات وأرواحهن، فالتميز جمرة أحرقتها وأحرقت أولادها، وتوشك أن تمتدَّ إلى طالباتها المبهورات، اللواتي رأين فيها شمعة تتوقد، وزهرة يفوح أريجها، ونحلة لا تهدأ، وفراشة لا تستقر، ونملة لا تكل ولا تملّ، فأي طاقة تحركها، وأي هدف تنشده؟!

تشق طريقها - رغم كل المحبطات - بعزم وإصرار، تتعجب من عرقلات البعض وصغارهم، ومن مطبات ترتفع هنا وهناك، ومن أشواك تزرع، ومن شباك تنصب، ومن أسافين تدق، فتسخر من كل ذلك، وتقفز عن كل الحواجز بمهارة، تحلق في الأعالي كفراشة، تمضي في طريقها لا تبالي، شعارها: من كانت النجوم وجهته لا يلتفت إلى الحجارة والصخور والحفر!

يسألها زوجها شفقة عليها: متى تعودين إلى الأرض، فأنت من الأرض خرجت، وإليها ستعودين ذات قبر، ولابدَّ أن تعيشي فيها إن أردت بعض الاستقرار والهدوء.

تنظر إليه بعيون أرهقها الحلم وتقول: سأعود، سأعود قريباً إن شاء الله

العدد 3133 - الثلثاء 05 أبريل 2011م الموافق 02 جمادى الأولى 1432هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً