سنتحدث في المقال عن ملا عطية الجمري، عليه رحمة الله، وسنتناول ظاهرتين قد شاعتا في شعره بشكل ملحوظ وكان علينا أن نقدم هاتين الظاهرتين في صورة واضحة وسلسة، ولذلك نأينا بنفسنا عن الكلام النظري إلا فيما لا نجد عنه مندوحة فذاك لابد لنا من التعريج عليه في عجالة توضح معالم الفكرة وتجعلها سائغة الهضم حتى لا نحيد عن منهجنا.
نتوقف هنا أمام ظاهرتي الصورة الموقوفة والحوار على أن هناك ملامح فنية كثيرة يحفل بها ديوان هذا الشاعر البارع والتي تجعل حديثنا متواصلا كلما قلبت تلك الأبيات الشجية وجدتني أضع يدي على تألقات تبين شخصية هذا الشاعر - عليه الرحمة - وأول ما سنتناوله هو التفاتة أتت من فنان وهو العلامة السيد محمدصالح السيدعدنان حين كان يقرض الجزء الثالث من ديوان الجمرات، فقال في أحد الأبيات أي كالسيدمحمدصالح السيدعدنان:
يتابع في الأجزاء فيحذف ما يرى
هجينا ويبقي سابق الحلبان
وهناك هوامش قد اشارت إلى التنقيح الذي قام به الشاعر، ولكني لا أعلم هل كاتب هذه الهوامش هو السيدمحمدصالح أم المرحوم الخطيب الأديب الملا محمدعلي الناصري. على أية حال ما يهمنا هو أن الشاعر كان من الموجودين الموضوعيين الذين يأخذون شعرهم بالتنقيح والتجويد. ومدرسة الصنعة معروفة في الأدب العربي، فقال الأصمعي «زهير بن أبي سلمي والحطيئة وأشباههما عبيد الشعر، وكذلك كل من جود في شعره ووقف عند كل بيت قاله وأعاد فيه النظر حتى يخرج أبيات القصيدة كلاً مستوى الجودة» هذا النص وهو للأصمعي يبين لنا أن هناك اتجاها واضح المعالم شاع في الأدب أو الشعر العربي نستطيع أن نطلق عليه الاتجاه الصنعوي، ولا نعني بالصغة التكلف والتصنع، ولكن ذلك لا يعني المهارة والحذاقة في الفن الشعري.
وبدأ ذلك واضحاً حين نقح المرحوم ملا عطية الكثير من الأبيات التي رآها غير ملائمة للمقام. فنراه حين أصدر الطبعة الثالثة قد غير مثلاً في البيت الذي يقول:
مرت علي أيام يا كعبة الوفاد
راسي دراسك يا ضيا العالم على اوساد
من راسي وراسك يا ضيا العالم على اوساد
فنلحظ في هذا التنقيح أن هناك ابتعادا عن كل ما يوحي بانحصار العلاقة بين الحسين (ع) وبين الرباب رضوان الله تعالى عليها في وله أو شوق أو إبراز صورة لا تليق بالحسن (ع) - مثلما حفلت كتب الأخبار من أمر الرباب وأن الحسين يتمثلها في شعره. وفي رأيي أن هذه الأخبار لا تخلو من نفس الخيال الشعبي. وما يهمنا الآن ليس التاريخ وإنما هو التشكيل الفني الذي استطاع أن يصور العلاقة القائمة بين الحسين (ع) والرباب على أنها علاقة إنسانية متكاملة وعلاقة متميزة بالعزة والمجد لا بالوله والشوق.
ثم يتناول البيت الذي يذكر فيه تصدق أهل الكوفة على أطفال الحسين (ع) أذية زينب (ع) من ذلك قائلاً:
أدري يعمه حرمه جدنا الهادي
لكن يعمه الجوع أنا فتت افادي
وإذا به يعدل عن هذا ويغيب مشهد تناول طفلة الحسين (ع) قائلاً:
والله يهل كوفان ذوبتو افادي
هذا علينا حرمه جدنا الهادي
فهو يبرز تأذي زينب (ع) من صدقة أهل الكوفة ولا يظهر أن أطفال الحسين متهاوون على تلك الصدقة، كما أوحى في الطبعة الأولى إلى أنه أيضاً نأى بنفسه عن تكرار كلمة العمة التي أتت في البيت مرتين مع ضمير (أنا) المحشور في الشطر الثاني من البيت. ولقد لحظت أنا أن هناك قراءتين لقصيدته في سؤال محمد بن الحنفية لزينب (ع):
محمد ينادي
في البيت الذي يقول أو قفل الموشح الذي يقول:
وانت يمحمد خبير مجرب فراق الاحباب
وإذا به يقول:
وانت يمحمد مجرب لوعة فراق لحباب
وهنا فرق بين الخبرة واللوعة فالخبير متمرن قد صار جلداً ربما على ذلك، ولكن الذي يشعر باللوعة هو الإنسان الحساس المرهف. والصورة الأولى تبين أن محمداً إنسان ليس في قلبه ألم، والصورة الثانية تبين أنه إنسان رقيق قد عان من المصائب وفقد الأحبة.
هذه أمثلة لا تعني الحصر وقد حفل ديوان الشاعر بذلك بيد أننا نستدل على الظاهرة بما يكفي لبيانها على أن هناك ظواهر لا تقل شأنا مثل ظاهرة التوازي النصي والبعض من النقاد يسميه التزمين وهو حصول حدثين متناقضين وفي صورة فنية في آن واحد، أي أن الشاعر بعبقريته يستطيع أن يبرز موقفين متناقضين في الاحساس، ولكنهما متنافسان في القوة.
ويبدو ذلك واضحا في رثاء العباس حين يقول:
طاح أبوفاضل أو راح يغرد بصوته البشير
شمل عدوانك تشتت قرة عيون الأمير
قرة عيونك عميد الجيش بالميدان طاح
بيرق العز انكسر منهم وعزم حسين راح
فهو في هذه الحال يظهر وبكل براعة تناقل البشرى بين الأعداء، وعلى رغم قلة الصور البلاغية التي في هذا المشهد إلا أنه استطاع أن يبرز بعبارات الفرح والتهنئات والشماتة. أقول استطاع بسرد هذه المعاني المكثفة المتلاحقة حال السرور والفرح التي عمت أوساط الجيش الاموي حين وقع أبوالفضل العباس (ع)، ثم يهيئ للانتقال إلى الطرف الآخر وهو الإمام الحسين (ع)، والذي تقع عليه المأساة مستعينا بلسان حال الأعداء.
هالسا من بعده ظل كالطير مكسور الجناح
منكسر ظهره يدير العين معدوم النصير
إنها شماتة تبين هول المصاب على الإمام الحسين (ع) إذ يقول الشاعر:
وقف معدوم النصير حسين ودموعه تهل
صاح يعضيدي وقع وسفه على القاع الحمل
حزام ظهري ويا كفيل أيتامي شبيدي عليك
هذا رمحك هذا جودك وين سيفك وين يديك
إن الشاعر استطاع أن يقيم معنيين متوازيين وصورتين مختلفتين لوقع مصرع العباس على معسكر عمر بن سعد، وبين الفرح وتناقل المبشرين للخبر وبروز ارهاصات النصر في الوقت الذي يكون فيه مصرع العباس مأساة على معسكر الحسين وحرم الهاشميين (عليهم السلام) أجمعين، ولاح هذا بواسطة لسان الحال الذي استطاع الشاعر أن يحلق به في أعلى مستوى إذ يقول:
وقف معدوم النصير حسين ودموعه تهل
صاح يعضيدي وقع وسفه على القاع الحمل
(وقع الحمل) يحمل إشارة انهيار العمد وانهيار الدولة. الله، ما أروعه استناطقا للسان الحال وقدرة على تشكيل الحال النفسية التي تختلج داخل الحسين (ع).
أقول - بعد نجاح الشاعر في إظهار الحالين في دقة متناهية لحال معسكر الأمويين وحال الحسين وإرهاص ما ستؤول إليه الأمور - إن الشاعر وفق في تشكيل التوازي النصي والذي يظهر حالين متناقضتين بسبب ظرف أو حدث معين.
الحوار
سبق وأن تحدثنا في مقال سابق عن الحوار الذي حفل به ديوان المرحوم ملا عطية، لكنه كان كلاما سريعا، وفي اعتقادي أنه يحتاج إلى بسط وإلى شيء من التنقيح والحوار الذي في شعر ملا عطية - مثلما ذكرنا سابقا - إن لم يكن دراميا فإنه أشرف على أن يكون دراميا إلى حد ليس ببعيد. وهذا الحوار يستطيع أن يعطي هذه الأبيات طابعا مسرحيا، إذ يعتبر النقاد أن الحوار الدرامي هو الفيصل بين الملحمة والمسرح، إذ يقول أستاذ الأدب الإنجليزي في كلية الآداب - جامعة القاهرة عبدالعزيز حمودة: كيلا نكون مبالغين إذا قلنا إنه من دون الحوار لا يكون هناك أدب مسرحي. طبعاً هناك فنون أدائية مختلفة تتوافر لها عدة عناصر درامية من حدث وصراع وبطل مأسوي وكل ما تحدثنا عنه حتى الآن مثل الأوبرا والباليه وإن كانت الأوبرا هي الأخرى تتخذ الحوار إلى حد كبير، لكن الحوار هو العنصر المكمل لكل العناصر السابقة.
ثم يرد في كلامه هذا بكلام يقول فيه: الحوار حقيقة من أهم الفوارق الأساسية بين الآدب القصصي وبين الفن المسرحي. هذا الكلام يستنتج منه أن الحوار خاصة مهمة في الأدب المسرحي على ألا نغفل السمات الأخرى، ولكن ما يهمنا في هذه المناقشة هو أن نبين أن شعر المرحوم الملا عطية كان يحمل حسا مسرحيا مع أن طه حسين ذهب إلى أن الشعر العباسي لم يتطور التطور المرجو، أي أنه لم يفر من دراما اليونان، على رغم حركة الترجمة المحمومة في ذلك العصر.
ومقارنة بعصر المرحوم ملا عطية فإننا نرى أن ذلك العصر أخصب فكراً أوأدبا وترجمة، لأن العهد الذي عاشه اللا عطية كان عهد عدم استقرار سياسي، فكانت الحرب العالمية الثانية وقعا شنيعا على المستوى الاقتصادي، حتى أن طلاب طه حسين قد كلفهم بتحقيق كتاب الذخيرة وأخرجوا منه الجزء الأول، ثم أتت الحرب فلم يستطيعوا أن يطبعوا الجزء الثاني، وإن كان كلامي استطراداً أو بمثابة جملة اعتراضية نعود إلى موضوع الحوار عند ملا عطية، وهل يكون منطقيا متطابقا مع تعريف الحوار الدرامي؟ طبعاً لا، ولكنه يحمل الحساسية بين الطرفين المتحاورين مثل الحوار الذي كان بين الحسين والعباس عليهما السلام.
يقله ينور العين درخصني العزم هاج
يا خوي مالي عن اورود المشرعة علاج
يحسين سكنه بطفلك الملهوف جتنه
يابس لسانه وشوفته والله شعبتني
أوحال العزيزة وحال أخوها شلون جتني
تجذب الونه والرضيع يدير عينه
هلت مدامعها يخويه أوواقفت حداي
ترتعش واتقلي يعمي تفتت احشاي
مدة ثلث أيام والله ما ضقت ماي
واحنا يخويه الموت لازم واردينه
نرى هذا الحوار من جانب العباس يخاطب الحسين ويكسر لغة السرد التي تبعث السأم - أحياناً - وفي لغة رقيقة غالبية نسيجها البطولة والأسى.
ثم يبادر لسان حال الحسين:
قله يقطب الحرب يا شايل علمنا
خله يخويه من العطش يهلك طفلنا
الله يعين الجيش لتشتت شملنا
بعدك يخويه تميل عدوانك علينا
عباس تدري وحدتي بعدك مكيدة
وانت يخويه الجيش سرداله وعميده
أو تدري الأخو للموت ما يسلم عضيده
والحيد يضعضع من يفارق عوينه
قله نخلي تموت نسوتنا ظمايه
واحنا يكهف الخايف اليوث وشفايه
بحسين رخصني بنكس هالرواية
خيل يجيب الماي لو تقطع يميني
يحسين درخصني أنا لهليوم مذخور
قصدي بالمطهم لدوس خدود وصدور
إن ما يمتاز به الحوار هو عدم السير على وتيرة واحدة، ففي البداية يعلو صوت البطولة والارتجاز مثل:
ايقله ينور العين درخصني العزم هاج
أو قصدي اروي مهندي من فيض الاوداج
فهذه أصوات البطولة والارتجاز ثم ينسكر الحوار فيتحول إلى خطاب هامس يطلب في استلفات إلى مأساة طفل الحسين ويستعطف قائلاً: طفلك يخويه حسين فت قلبي بهليبه ويسير على هذين المنوالين فيجيب الحسين بما يبين مكانه العباس (ع) في قلبه وربما له مكانة أكثر من أولاده قائلا:
خله يخويه من العطش طفلنا
ثم
العدد 1253 - الخميس 09 فبراير 2006م الموافق 10 محرم 1427هـ