العدد 3146 - الإثنين 18 أبريل 2011م الموافق 15 جمادى الأولى 1432هـ

التـّوْتَـرة

ياسر حارب comments [at] alwasatnews.com

نشرت مجلة «نيوزويك» دراسة أجراها مجموعة من أساتذة الاقتصاد والأعصاب وخبراء الكمبيوتر في جامعة (تمبل) الأميركية، حيث قام الباحثون بجمع عدد من الناس وطلبوا منهم اختيار أفضل موعد لهبوط الطائرات في مطار لوس أنجليس، وقاموا بإعطاء المتنافسين مجموعة من المعلومات المتعلقة بعدد المسافرين، وكمية الأمتعة، وحالة الطقس، وعدد الرحلات اليومية وأوقاتها وغيرها من معلومات.

كان المتنافسون يخضعون لتصوير أدمغتهم بالأشعة المقطعية بين الفينة والأخرى، وقد لاحظ الباحثون بأن النشاط الموجود فيما يسمّى بـ (قشرة الفص الجبهي) وهي المنطقة الموجودة في مقدمة الدماغ والمسئولة عن عملية اتخاذ القرارات والتحكم في المشاعر، قد بدأ يقل تدريجياً مع زيادة كمية المعلومات، حتى توقف النشاط تماماً في نهاية الاختبار. تقول نتائج الدراسة بأنه كلما زادت معلومات الإنسان قلت قدرته على اتخاذ القرارات الصحيحة، وهذا ما حصل للمتسابقين الذين أصبحوا أيضاً أكثر إحباطاً وقلقاً في نهاية التجربة.

وإذا نظرنا إلى الحياة من حولنا فيمكننا أن نلاحظ ذلك ملياً. فقد يكون أحدنا على وشك شراء سيارة جديدة، وقبل موعد الشراء بأيام، يغرقه أحد أصدقائه بكم هائل من المعلومات حول سيارات أخرى، فينسى لماذا كان يريد شراء السيارة الأولى، وينتهي به المطاف إلى شراء سيارة قد لا تناسب احتياجاته. أي أن كثرة المعلومات في الدماغ تؤدي إلى عسر هضم فكري، وقد تسبب إمساكاً معلوماتياً يمكنه أن يؤدي إلى بلادة ذهنية.

يقول الباحثون بأن هناك كم هائل من المعلومات التي لا نحتاجها في حياتنا، ولكننا نستطيع الوصول إليها بسهولة من خلال الإنترنت، كتقارير مفتشي الصحة العامة حول مطعم ما، أو تقارير التأمين الخاصة بسيارة ما، والسؤال هو: لماذا نحتاج إلى كل هذه المعلومات؟

ادخل إلى السوبرماركت وحاول أن تشتري معجون أسنان وسوف تُدهش من كثرة الأنواع التي تتزاحم على الأرفف، فتقف حائراً لا تدري أي الأنواع أفضل. حينها لا تملك إلا أن تشتري النوع الذي يظهر كثيراً في الدعايات اليومية، دون أن تعلم أن كان يناسب أسنانك أم لا.

وهذا هو الحال مع تويتر، فقد تتبع عشرات وأحياناً مئات المغردين الذين يغرقك كل واحد منهم بسيل هائل من المعلومات والأخبار والتقارير، وإذا ما حاولت أن تتذكر شيئاً مما قرأت في آخر اليوم فإنك ستعجز عن ذلك بالتأكيد، إلا إذا كانت ذاكرتك حديدية. وليس تويتر وحده من يفعل ذلك، بل معظم شبكات التواصل الاجتماعي كالفيسبوك واليوتيوب والهواتف الذكية التي لم نعد نستطيع الاستغناء عنها، والتي بدأت تستخدم أساليب متميزة في ربط حياة الإنسان بها. فأجهزة آبل الأنيقة تدفعك - دون أن تشعر- إلى الإدمان على المعلومات والبحث عن كل جديد، أضف إليها رسائل البريد الإلكتروني التي تصلك على مدار الساعة من خلال البلاكبيري ورسائل (البرودكاست) التي تشعرك بأنك تعيش في غرفة أخبار وليس في غرفة نومك. وقد اصطلح على تسمية هذه الحالة بـ (التّوْتَرة Twitterization) نسبة إلى كثرة المعلومات وتشعبها على تويتر، وليس ذلك عيب في تويتر ولكن في طريقة استخدامنا للمعلومات.

في العام 2009 تم إدخال مصطلح (إعياء المعلوماتInformation Fatigue) في قاموس أوكسفورد، والذي يعني: صعوبة استيعاب موضوع ما وضعف قدرة الإنسان على اتخاذ قرارات حياله بسبب كثرة المعلومات المتوفرة. فكثرة المعلومات قد تغير حياتك، ولكن ليس إلى الأفضل دائماً، وإلى جانب الإثباتات العلمية بأنها تضعف التركيز والذاكرة، فإنها قد تدفعك إلى الملل والهروب من القراءة والاطلاع.

إننا في حاجة إلى التخصص في قراءاتنا، فالثقافة العامة والاطلاع على معلومات خارج تخصصاتنا هو أمر مفيد بالتأكيد، ولكن المقصود هنا هو ألا نجعل حياتنا كلها ثقافة عامة، فمجتمعاتنا العربية في حاجة إلى أخصائيين أكثر من حاجتها إلى مثقفين عموميين. إن أحد عيوبنا هو أننا لا نستطيع أن نتقبل فكرة جلوسنا ساكتين في مجلس عام، ونشعر بأنه علينا أن نشارك في جميع القضايا المطروحة وخصوصاً إذا كانت سياسية أو رياضية أو اجتماعية، وننسى بأن لكل إنسان دور في الحياة، تشكّله قراءاته وأفكاره وممارساته اليومية، ولا مكان اليوم لموسوعيي المعرفة، فالمعرفة قد شبّت عن الطوق وصارت أكبر من أن تسعها موسوعة بشرية أو حتى إلكترونية.

إن إحدى مشكلاتنا هي أننا مشغولون بسرعة اتخاذ القرارات وليس بجودتها، ولذلك نندم لاحقاً على قرارت اتخذناها تحت الضغط، أو قرارات لم نتخذها، فعدم اتخاذك قراراً هو قرار في حد ذاته.

بعد أن انتهت أزمة تلوث خليج المكسيك بالنفط المتسرب من أنبوب شركة (بي بي) قال ثاد آلن رئيس فريق الأزمة المُعين من البيت الأبيض بأنه كان يتلقى في بداية الأزمة قرابة 400 صفحة يومياً مليئة بالمعلومات حول مشكلة التسرب، ولكثرة التقارير والرسائل والاتصالات التي كانت تنهال عليه، فإنه نسي أن يفرض حظراً جوياً فوق مكان التسرب، وكان المكان يغص بطائرات القنوات الإخبارية والإنقاذ وغيرها، مما أدى إلى خلق تيارات مائية قوية ساهمت في نشر بقعة النفط في الخليج حتى خرجت عن السيطرة في أيام قليلة. الإنسان ليس في حاجة إلى معلومات بقدر حاجته إلى التركيز.

بعضنا يريد أن يعرف كل شيء دون أن يعلم لماذا، وبعضنا لا يريد أن يعرف شيئاً ولا يريد أن يعلم لماذا، والحل كما أظن هو في الدعاء المأثور: «اللهم علّمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علّمتنا»

إقرأ أيضا لـ "ياسر حارب"

العدد 3146 - الإثنين 18 أبريل 2011م الموافق 15 جمادى الأولى 1432هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً