العدد 1278 - الإثنين 06 مارس 2006م الموافق 05 صفر 1427هـ

إيران... ومحمد علي (2)

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

بين العامين 1820 و1840 نجح محمد علي في نقل مصر من دولة ضعيفة وتابعة إلى نموذج عصري يحتذى في الشرق وقوة كبرى في منطقتي البحر المتوسط والبحر الأحمر. فالتجربة أخذت بأسباب التقدم واستلهمت النماذج الأوروبية ونجحت في تقليدها ونقلها والبناء عليها وباتت مصر قادرة على الاستغناء عن الغرب.

هذا الأمر اثار المخاوف لدى الدول الكبرى في أوروبا وأخذت تخطط لمحاصرة التجربة والتضييق عليها مستفيدة من تلك الطموحات والمغامرات العسكرية التي خاضها الوالي العثماني الجديد.

استغلت أوروبا تلك الاخطاء وبدأت تنفذ من ثغراتها لضرب التجربة من الخارج تمهيداً للقضاء عليها وإعادة مصر إلى ما كانت عليه مجرد دولة عادية تنتظر المساعدات والمعونات لتأمين حاجات سكانها.

لم تكن تجربة محمد علي كلها وردية. فهناك إلى جانب نزعة التحديث والتطوير نمت ظاهرة الاستبداد السياسي والتفرد بالقرار وعدم الاستماع إلى اصوات الحكمة والعقل.

طبعاً هناك الكثير من الظروف الموضوعية فرضت شروطها على سياسة محمد علي. وهذه الظروف تتصل مباشرة بالواقع الاجتماعي المصري في القرن التاسع عشر وطموح السلطة (الدولة) في الاسراع ببناء نموذج متطور يعيد للبلاد موقعها التاريخي ودورها القيادي.

هذه الطموحات المحكومة بشروط التسرع في انجاز الخطوات التاريخية المطلوبة دفعت محمد علي إلى الاصطدام بقوى تقليدية كانت تعطل وأحياناً تعرقل نمو الدولة الجديدة. وبسبب هذا الوضع المعقد اصطدم محمد علي بالمماليك (بقايا سلطة سابقة) فاضطر إلى تنظيم مذبحة في القلعة في العام 1811 قضت عليهم واحدثت حالة رعب في القاهرة وخلقت هالة من الخوف حول سلطة الوالي العثماني الجديد.

بعد المذبحة انفرد محمد علي بالسلطة وبدأ يؤسس دولته وفق نموذج عصري اصابه النجاح واعطاه فرصة لبناء جيش قوي واسطول بحري حديث. وبعد هذا التطور العسكري - الاستبدادي ازدادت مغامرات محمد علي ودخل في مناكفات ومشاحنات ومعارك ومجموعة مواجهات مع دول الجوار والقوى الموجودة في دائرة مصر... وفي ظل متغيرات دولية.

وبسبب موقعه ومكانة مصر التقليدية في قلب المنطقة العربية ارسل محمد علي سلسلة حملات إلى الحجاز واليونان وبلاد الشام الأمر الذي اثار مخاوف السلطنة العثمانية من نمو قوة جديدة قد تنجح في اخذ المبادرة منها وقيادة العالم الإسلامي بدلاً من اسطنبول (الآستانة). كذلك لفتت قوة محمد علي انتباه الدول الكبرى في أوروبا فبدأت تخطط لاسقاطه مستفيدة من مخاوف السلطنة وعدم قدرتها على كبح طموحاته.

أسهم الصراع على النفوذ في السودان والحجاز واليمن وبلاد الشام وخطوط التجارة في البحرين المتوسط والأحمر في تأجيج المشاعر وتكوين تحالفات ضد محمد علي. التحالفات لم تكن موحدة الأهداف فكل طرف له غاية. وكل فريق ينظر إلى التجربة من موقع مختلف. ولكن أوروبا قرأت المسألة من منظار آخر ورأت في تلك التجربة بداية حديثة للاستقلال وخطوة جديدة لاستعادة الخلافة الإسلامية روحها وحيويتها فقررت وأدها.

التضارب في الرؤية لم يمنع لقاء المصالح المؤقتة وتجميع مختلف القوى المتضررة من التجربة والدفع باتجاه تكتلها لوقف نمو ظاهرة محمد علي، التي أخذت تشجع قوى محلية على التمرد والانتفاضة ضد الاحتلالات. وهذ ما حصل.

آنذاك كانت السلطنة تتعرض لضربات من جهات مختلفة وعلى جبهات عسكرية متعددة ولذلك كانت مستعدة للمساومة وتقديم التنازلات مقابل وقف الضغوط التي تواجهها. كذلك كانت دول أوروبا الاستعمارية (فرنسا، وبريطانيا) تخطط لاحتلال المنطقة العربية - الإسلامية وهذا من الصعب تحقيقه من دون تأليب القوى ضد بعضها لتمرير سياسة «فرق تسد». ففي تلك الفترة بدأت بريطانيا ببسط نفوذها في الخليج، وفرنسا نجحت في احتلال الجزائر، وروسيا النامية عسكرياً اعادت تكرار هجماتها في مناطق السلطنة الممتدة من قزوين إلى البحر الأسود وأوروبا الشرقية.

كل هذه العناصر الجغرافية والعسكرية فرضت على السلطنة الموافقة على الشروط الأوروبية والتنازل عن الكثير من المناطق والمواقع مقابل مساعدتها على التخلص من نفوذ مصر في بلاد الشام ومحاصرة ظاهرة محمد علي ومنعها من الانتشار. وهكذا وقعت السلطنة في العام 1840 على «معاهدة لندن» التي قضت بمحاصرة مصر وقطع خطوط الملاحة والامدادات وعزل البلاد عن العالم والبدء في تفكيك التجربة (الصناعية الحديثة) وإعادة الدولة إلى دائرة الخضوع والتسليم ومن ثم الاستسلام للنفوذ الأوروبي. فالغاية الدولية تحققت وهدفها ليس محاربة الاستبداد واقامة الإصلاح وانما العكس تماماً. والعكس يعني تكريس التخلف وبعثرة عناصر القوة ومنعها من التجمع.

تجربة محمد علي على تعقيداتها وخصوصياتها وظروفها ليست موغلة في الزمن وكذلك ليست بعيدة عن ذاك المشهد الجغرافي الذي وقع قبل 15 سنة ضد العراق، وهناك بوادر لتكراره ضد إيران بذرائع شتى تذكر بتلك التي اختلقت لمحاصرة مصر في القرن التاسع عشر.

قراءة الماضي ضرورة ملحة لمعرفة خفايا واسرار وملابسات الكثير من الأمور التي تحصل في حاضرنا. فمن الماضي نأخذ الدروس والعبر وأول تلك المواعظ المحسوسة هي ألا نقع في الاخطاء نفسها ونعيد تكرار التاريخ بأشكال مختلفة. فهل يعيد التاريخ نفسه مع إيران كما حصل الأمر مع مصر والعراق ام أن هناك فسحة للمناورة تسعف طهران وتنقذها من حصار دولي وربما مواجهة عسكرية تخطط له واشنطن كما خططت لندن في القرن التاسع عشر ضد مصر؟ الاجابة النهائية تملكها قيادة طهران

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 1278 - الإثنين 06 مارس 2006م الموافق 05 صفر 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً