العدد 1300 - الثلثاء 28 مارس 2006م الموافق 27 صفر 1427هـ

مصير الأمة لم يعد في أيدي القمة!

صلاح الدين حافظ comments [at] alwasatnews.com

حين تنهي القمة العربية أعمالها اليوم في الخرطوم، وتصدر قراراتها وتوصياتها، التقليدية والمتوقعة ويستعيد أهل وادي النيل عموماً، وأهل العاصمة السودانية المثلثة خصوصاً، ذاكرة للتاريخ مضى عليها نحو أربعة عقود من الزمن، حين انعقدت في العاصمة نفسها أشهر قمة عربية سميت قمة اللاءات الثلاثة، اثر زلزال هزيمة 1967 المدوية.

أربعة عقود من الزمن الا قليلا، باعدت بين القمتين من حيث الشكل ومن حيث المضمون، فلا عرب اليوم هم عرب الأمس، ولا قادة الأمة الآن هم قادة الأمس، ولا الظروف والملابسات والأزمات الداخلية والدولية، كل شيء تغير، ربما من النقيض إلى النقيض.

قمة اليوم في الخرطوم جاءت لتؤكد من جديد اعتمادها مبادرة السلام العربية، التي سبق أن أقرتها قمة بيروت، خيارها الاستراتيجي، القائمة على تسوية الصراع العربي الاسرائيلي تسوية سلمية، تتضمن الاعتراف العربي بـ «إسرائيل» والتطبيع معها إذا تخلت عن الأرض المحتلة.

قمة الأمس في الخرطوم قررت لاءات ثلاثة شهيرة، هي لا للصلح ولا للاعتراف ولا للتفاوض مع «إسرائيل»، حتى يتم تحرير الأرض العربية المحتلة، مثلما قررت قطع أو تجميد العلاقات العربية مع الولايات المتحدة الاميركية حامية «إسرائيل»... وقتها كان الوقت عصيبا عنيفا للغاية، هزيمة سياسية عسكرية مدوية، حاقت بالعرب أمام «إسرائيل»، التي أكملت احتلال ما تبقى من فلسطين، فضلا عن احتلال سيناء المصرية والجولان السورية، وسط دعم أوروبي أميركي هائل، وتشجيع وربما إعجاب دولي بالأسطورة الاسرائيلية التي لا تقهر!

قمة الخرطوم قالت لا، لكي توقف الانهيار وتداعياته المرعبة، تسند المجهود الحربي والعمل السياسي على كل الجبهات، وهو ما دعم حرب الاستنزاف على الجبهة المصرية، لتمهد الطريق الفعلي لحرب أكتوبر 1973 المجيدة فيما بعد، وفي الحالتين لحرب الاستنزاف وحرب أكتوبر، كان الدعم العربي هو السند الحقيقي، الذي استند إلى لاءات قمة الخرطوم، لا صلح ولا اعتراف ولا تفاوض إلا.

يا إلهي، كم تغير الزمن وتغير الأشخاص والحوادث وتقلبت السياسات، وكم جرت المياه متدفقة في النيلين الأبيض والأزرق من الجنوب الى الشمال، وكم تبدلت المفاهيم والمصطلحات، من قيمة الممانعة والمعاندة، إلى قمة الموافقة، وفي المقابل كم تغيرت «إسرئيل» وتقدمت ورسخت أقدامها الثقيلة على الأرض المحتلة في فلسطين والجولان، بعد تحرير سيناء بالتفاوض، كم تسلحت بالقدرات النووية والترسانات التقليدية... وكم انقلبت السياسات الدولية وموازينها، بعد أن غاب القطب السوفياتي الذي كان سند معظم العرب، ليسود الآن قطب أوحد هو القطب الأميركي الذي كان ولايزال سند «إسرائيل».

فمن الذي صعد إلى أعلى وتقدم، ومن الذي نزل إلى أسفل وتخلف، الاجابة لا تحتاج إلى ذكاء استثنائي، لأن الأمور أكثر من واضحة، تجبر الجميع في هذه اللحظة الفارقة، على السؤال عما جرى للاءات الثلاث لقمة الخرطوم القديمة، إذ سيجيب «الثوريون الرومانسيون» بكلمة واحدة هي «الخيانة»، بينما سيقول «المحافظون الجدد» بل إنها «الواقعية»، وبين الطرفين والكلمتين تكمن حقيقة أزمتنا الراهنة، التي تكتشف واقع العجز حتى عن الدفاع عن الحقوق الشرعية التي يعرفها الجميع!.

سلسلة القمم العربية المتتالية، مع كامل احترامنا للجالسين فوقها، لم تعد قادرة على اتخاذ المبادأة والمبادرة منهجاً وسلوكاً، ولم تعد قادرة على فرض قراراتها، ولا حتى الاشتراك اشتراكا فعليا وعملياً في تقرير مصير دولها وحل أزماتها المتتالية كالسيل المنهمر، انما هي أصبحت تجتمع وتنفض كرد فعل لحوادث أو قرارات وسياسات تقع وتقرر وتوضع في عواصم دولية، ومناطق أخرى من العالم القريب والبعيد، وتأتي قممنا لتصدق عليها وتقرها وتتبناها، حتى لو قالت كل صحفنا وإذاعاتنا إنها مبادرات عربية صرفة!

لذلك لم أكن أتوقع من قمة الخرطوم الحالية التي تصدر قراراتها اليوم، أكثر مما قالته وقررته، فجدول الأعمال معروف ومزدحم، ومشروع القرارات كان في أيدي بعض الصحافيين العرب والأجانب منذ أسبوع، والتجديد لعمرو موسى أمينا عاماً لخمس سنوات جديدة أمر متفق عليه مسبقاً، ومجلس الأمن والسلم العربي محاكاة تقليدية منتظرة وطبيعية لمجالس مماثلة في الاتحاد الأوروبي والاتحاد الافريقي... الخ.

أقول لكم بصراحة جارحة، إن الجديد الحقيقي والفعلي، هو تسليم هذه القمة، مثل سابقاتها، بأن «مصير الأمة لم يعد في أيدي القمة»، وأن أزماتها الساخنة لم تعد تبحث وتحل في عواصمنا، وأن ملفاتها قد هاجرت هجرة إرادية أو قسرية إلى هناك، إلى عواصم صنع القرار واحتكاره، بل ممارسة الهيمنة عليه، في ظل استسلام أصحابه لما يسمى الأمر الواقع الجديد... وخذ عندك الأدلة الآتية:

أولاً: ملف القضية المركزية «هكذا كانت تسمى!» أي الصراع العربي الاسرائيلي، انتقل نهائيا منذ سنوات لواشنطن، في ظل تحلل القوى العربية، وصعود القوة الاسرائيلية، ولم يعد في وسع العرب، قمة وسفحاً، سوى المبادرة بالموافقة على مشروعات التسوية المستوردة عبر أوسلو وخريطة الطريق وتفاهمات لا تفهم ولا تنفذ!

ولم يكن مطلوبا من قمة الخرطوم، سوى تكثيف الضغط على حماس، الحركة والحكومة، حتى تعترف بـ «إسرائيل»، أو تسقط في ظل الحصار، وهذا ما يجري سراً أوعلناً، باسم مكافحة التشدد الفلسطيني، وتشجيع الاعتدال الإسرائيلي!

ثانياً: الملف العراقي، مرهون هو الآخر في واشنطن، منذ قرر المحافظون الجدد الأميركيون شن الحرب على العراق، وواكبهم بعض العرب بتشجيع الحرب لازاحة الطاغية المعتدي، بينما حرض عرب آخرون حكم صدام على المكابرة، حتى وقع في الشراك الناسفة.

ولم يعد للعرب، بعد ثلاث سنوات من احتلال العراق، أي قول أو فعل في المسألة العراقية المعقدة والدامية، وحين غرست القدم الاميركية في هذا المستنقع الدامي، لم تجد عند أصدقائها العرب وسيلة انقاذ حقيقية لاسعافها، وها هي تلجأ إلى التحاور مع إيران «عدوها اللدود» لكي تبحث عن حل للمأزق العراقي!

ولم يكن مطلوبا من القمة، سوى تلبية هذا الطلب البسيط، توفير غطاء عربي سياسي وأمني لخروج» أو هروب» أميركي يحفظ ماء الوجه، وحتى محاولة عقد حوار وطني جامع للعراقيين في ظل الجامعة العربية، تتعرض للإجهاض الشرعي وغير الشرعي!

ثالثاً: الملف السوري اللبناني الملتهب، أصبح في شراكة أميركية فرنسية، تقرر وتفعل وتخطط وتنفذ مباشرة، فإن احتاجت إلى دعم، لم تلجأ للأصدقاء والحلفاء العرب طبعا، لكنها لجأت إلى استصدار قرارات نافذة من الأمم المتحدة، لتكون غطاء شرعياً لا يعوزها لأي غطاءات عربية إن كانت هذه متوافرة أصلا.

الإرادة الاميركية الفرنسية، والأوروبية طبعاً، هي التي قررت وتقرر في الشأن اللبناني، السوري، ابتداء من اخراج القوات السورية من لبنان «التي سبق أن دخلت بقرار عربي للمفارقة» وانتهاء بتشكيل محكمة دولية لجريمة اغتيال رفيق الحريري، وصولا إلى تصفية المقاومة وقمع سلاحها وربما سجن قادتها أو تصفيتهم!

ولم يكن مطلوبا من العرب قمة وسفحاً، سوى الموافقة، وربما تسليك بعض الخطوط التفصيلية والهامشية المعطلة!

رابعاً: الملف السوداني، من أزمات جنوبه إلى غربه وشرقه... كان الملف ولايزال أسير العاصمة الأميركية وبعض العواصم الأوروبية، التي استخدمت عواصم افريقية وعربية لتزويق الصورة فقط، لقد تم توقيع اتفاق السلام في السودان بين الحكومة والحركة الشعبية منذ عام، لوقف الحرب في الجنوب، بضغط ونفوذ وصوغ وتهديد واغراء أميركي أوروبي، لان الهدف ابعد من ايقاف الحرب.

وها هو ملف دار فور الملتهب بعنف، يهاجر عنوة من أيدي السودانيين والعرب والأفارقة، إلى الأيدي التي تريدها أميركا وأوروبا، استكمالا لتسوية الجنوب «التي ستؤدي في رأينا إلى الانفصال، حتى لوا ستلزم الأمر غطاء بالشرعية الدولية للأمم المتحدة اياها!

لا تريد أميركا وحليفاتها غطاء عربيا رئيسيا هنا، اللهم الا بالمال والتمويل، لا تريد دورا عربياً ولا تسمح به، كما فعلت في الملفات الأخرى، ليس فقط لأنها تتعنت ضد العرب، ولا تثق بقدراتهم وكفاءاتهم، ولكن أيضا لان العرب فرطوا في دورهم الذي كان وانتقلوا سريعا من الممانعة الى الموافقة، ومن المقاومة الى المواءمة، على رغم أنهم كانوا في الخرطوم بالأمس، وعادوا اليها اليوم، ولكن يبدو أن ماء النيل تغير ونسيم الليل تبدل.

أخيراً... يلومني كثيرون من قسوة ما أكتب ناقداً للسياسات العربية الرسمية، محملا اياها المسئولية عما وصلنا إليه من تخلف وتهور وضياع هيبة ودور وفقدان مكان، غير أنني أجيب بأن حكامنا وحكوماتنا معا يمثلون «ولي الأمر صاحب الحل والعقد» ويتمسكون بهذه الولاية حتى الموت، بالتالي لا يحق لهم التهرب من مسئولية نتائج سياساتهم وثمار حكمهم.

القمم هي المسئولة عن أزماتنا، ودليل المسئولية يقفز من بين سطور البيان الختامي لقمة الخرطوم وقراراتها الصادرة اليوم، وليقل لي أي مسئول، ما الدور الفاعل والقرار النافذ، الذي اتخذته القمة في أي ملف من الملفات الساخنة السابق ذكرها، بعيدا عن الترحيب والتأييد، أو الشجب والاستنكار، وكلاهما يلخص دور العاجز.

ولنا ولكم الصبر، فليس لها من دون الله كاشفة.

خير الكلام: يقول أبوفراس الحمداني:

فيا أمتي لا تعدمي الصبر إنه

إلى الخير والنجح القريب رسول

إقرأ أيضا لـ "صلاح الدين حافظ"

العدد 1300 - الثلثاء 28 مارس 2006م الموافق 27 صفر 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً