العدد 3157 - الجمعة 29 أبريل 2011م الموافق 26 جمادى الأولى 1432هـ

حديث في الضياع وتلازم العِلم بالوعي

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

تحدثتُ قبل أيام عن العامّة والخاصّة من الناس. ففي الثقافة والعلِم ومراتبه يظهر الخاصّة على أنهم مُتقدمون فكراً وفهماً وإدراكاً بالأمور، فيما العامّة دون ذلك أو خلافه. ثم أضفت بأن كثيراً من التجارب والمحن الاجتماعية أظهرت عكس ذلك التصنيف تماماً. فقليلو الحظ سواء في الدين أو في العلم والدراية بالأمور صاروا أوفر حظاً في أن يقولوا كلمة حق تجمع الناس لا أن تفرقهم أثناء المحن، مُتقدمين بذلك على أدعياء الخصوصية والثقافة والعلم بالأمور.

اليوم أستحضر جانباً آخر من المعادلة، وهو المتعلق بغربة أولئك الخاصّة أثناء الكوارث الاجتماعية. ففي هذه الأزمات يضيع المثقف والقلم ويتيها. ضياعهما خارج عن إرادتهما أحياناً وفي أحيان أخرى بملئها. ثم أن ضياعهما الأساس هو في عدم فهمهما من قِبَل الآخرين كما يجب وبما يُفتَرض أن يكون في أضعف الأحوال. بالتأكيد فإن الاقتناع بعدم الفهم ليس تعالماً من صاحبه على أحد بقدر ما هو إحساس بغربة أفكار تُرفَض على وقع صراخ المتخاصمين ومِرائهم وأدران قلوبهم وموجة الشَّك التي تسكنهم مع بعضهم بلا مغادرة.

فالثقافة الأصيلة والقلم النزيه الخاضع لمقاييس العقل والمنطق والقناعات غير المُجيَّرَة والتمرد على التحزّب والفئوية وعدم الرضا للعيش في كهف التاريخ والأعراف المتوارثة سلباً هو ليس سيفاً ولا خطراً على أحد، وإنما هو تعبير عن أفكار مُكتملة اليقين أو نصف يقين حتى، تُزاحمها التفسيرات الأخرى والمغايرة في الرأي والموقف ليس أكثر من ذلك ولا أقل. لكن ومع الأسف تبقى عقدة عدم الفهم له قائمة وحادَّة وكأنها معركة يُصرَع فيها أحدٌ حتماً.

ظلِمَ جاليليو جاليلي من قِبَل الكنيسة عندما قال إن الأرض تتحرك، ولم يُعتَذَر منه إلاّ في العام 1983م أي بعد 341 عاماً من وفاته. وقتِلَ ميشال سرفيه شَرّ قتلة بسبب كتابه «إحياء المسيحية» ورؤيته في الثالوث الأقدس التي نفاها من الكتاب المقدس خلال رسائله وخطاباته مع الكثلكة. وأحرِق جون روجرز وجون هوبر أسقف غلوسيستر وريدلي أسقف لندن بسبب كتاباتهم وآرائهم. وجرَى ما جَرَى على دستويفسكي وفاغنر وغويا إبَّان الثورات الأوروبية.

كثيرة هي العقول والأقلام التي أدركت تلك المعادلة الصعبة وقرَّرت أن تعيش وتعبّر عن نفسها بشكل مختلف، أو حتى بشكل غريب وخارج التصوّر، عندما لم تُفهَم فأصابها الاضطراب في التقدير والموقف. بعض من ذلك الكثير آذى نفسه بفضح سلوكه الشخصي وكأنه جَلْدٌ للذات أو الصراخ داخل الجوف. الفيلسوف البارع وصاحب كتاب العقد الاجتماعي جان جاك روسو قال عن نفسه بأنه شاذ ومنحرف جنسياً. وفيلسوف البنيوية ميشيل فوكو قال عن نفسه بأنه لوطي حتى مات بالإيدز حتى وإن كانت حجّته فرز اللذة عن الموت. وجان جينيه قال عن أمّه إنها لم تتزوّج قط وإنه وُلِدَ لقِيطاً!.

بعض آخر من ذلك الكثير عالَج فهم الآخرين الضائع له بالانتحار كما فعل ديوجين وسينيكا وأرنست همنجواي وشجع عليه الفيلسوف الألماني ورائد العدميّة آرثر شوبنهاور. وبعضهم عالج ضياعه بالانضواء تحت رايات القتال وإن لدواعي وطنية كما فعل جان بول سارتر عندما انضمّ إلى المقاومة الفرنسية السريّة ضد الاحتلال النازي إبان الحرب الكونية الثانية. في حين نَعَّم بعضهم كثيراً من ردَّات فعله عن الضياع كما فعل إيمانويل كانْت عندما غَيَّر موعد نزهته اليومية في بلدته كونغيسبيرغ (والتي كان أهلها يضبطون أوقاتهم عليها) بعد سقوط سجن الباستيل إبَّان الثورة الفرنسية تعبيراً منه على فداحة الحدث.

وبعضهم انغمس في خلاف المعرفة التي يمتلكها ومغايرة متطلبات الأخلاق والقِيَم. وجدنا ذلك عندما ساند اليعاقبة الراديكاليين والمتطرفين بعض العلماء أمثال كوليريج وروبرت بيرنز وجوزيف بريستلي وتوماس لتفورد وهيردر وفيخته وشيللنغ وهويلدرلن وغيرهم. بل إن بعضهم في مرحلة سابقة أصبح عدمياً كـ دي ميديتشي وكونديه وأنطوان دو بوربون وكوليني وباز وكالفن عندما ارتبط تاريخهم بهذا القرار الفظيع «يُقطَّع كل الذين يُحاولون مساندة الهوغونو إرباً من دون أن يُوفّر أحداً؛ لأنه بقدر ما يزيد عدد القتلى يقلّ عدد الأعداء».

أيضاً، مَنْ منا لم يسمع بأديب الحرية وشاعرها الفرنسي فيكتور هوجو (1802م - 1885) الذي عاش في المنفى إبّان حكم نابليون الثالث مدة خمسة عشر عاماً، لكن هذا المثقف ورائد الرومانسية الأوربية كَتَبَ يقول بعد الاحتلال الفرنسي للجزائر «هذا ما تمّ في مكان يُسمّى بـ مطمورة روما (كما كانوا يُطلقون على أرض الجزائر حينها) غير أني اعتقد أن الغزو الجديد الذي قمنا به شيء كبير ومُفرح. إنها الحضارة التي تكتسح البربرية، إنه الشعب المستنير الذي يذهب باتجاه شعب غارق في الظلام، نحن إغريق العالم، وعلينا أن نضيئه».

في كلّ الأحوال، فإن الجدل بشأن أولئك الخاصّة يبقى قائماً. ورُجحان العامَّة عليهم (في أحيان كثيرة) أيضاً يبقى قائماً وخصوصاً في الأزمات الاجتماعية. وربما كانت نعمة العقل والعِلم الوفير التي يمتلكونها وسيلة منيعة في أن يقولوا كلمة سواء. لكن الظاهر من الأمر هو أن العِلم أحياناً يُصبح وبالاً على صاحبه إذا لم يقترن بالوعي. وشتّان بينهما

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 3157 - الجمعة 29 أبريل 2011م الموافق 26 جمادى الأولى 1432هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً