لم تمر إلا أسابيع قليلة على فوزه بإحدى ارفع الجوائز العربية جائزة سلطان العويس التي فاز بها قبله شعراء كبار من أمثال أودنيس، نزار قباني، محمود درويش، سعدي يوسف... حتى أسلم الشاعر العربي السوري الكبير محمد الماغوط الروح لباريها متأثرا، في العمق، بداء اليأس والفجيعة والحزن والوحدة. ومنذ أن فُجع في فقدان زوجته الشاعرة الرائعة سنية صالح وهي بالمناسبة شقيقة الناقدة خالدة سعيد زوجة الشاعر أدونيس، لم يعد الماغوط هو هو. كأن قطعة من جسده وروحه قد بترت أو كأن شيئا تهدم في أعماقه وكيانه.
وعلى رغم صمته الشعري العميق خلال السنوات الأخيرة، عاد ليكتب أجمل قصائد حياته في رثاء رفيقة العمر والشعر وضمنها ديوانه الأخير «سياف الزهور» دار المدى، دمشق. كان الماغوط الشاعر العربي الأكثر يأسا، والأكثر عدمية، والأكثر سخرية في مواجهة واقع السلطة والخيبة والعجز والقهر السياسي والاجتماعي والاقتصادي. ولفتت كتاباته الشعرية والنثرية، الإبداعية والصحافية، انتباه الملاحظين والنقاد حتى ان صحفا بريطانية وأميركية كانت تواكب أخباره وتستشهد بخطابه الأدبي النفاذ المتفكه المر.
في نهاية الخمسينات الماضية، وفي إحدى أمسيات «جماعة شعر» في بيروت، قرأ أدونيس بعضا من المقاطع الشعرية المثيرة والمدهشة على من كان حاضرا، وطلب من زملائه أن يخمنوا لمن يكون هذا الشعر، فسارعوا إلى القول بإنها للشاعر الفرنسي رامبو أو للفرنسي الآخر بودلير... وفاجأهم أدونيس بأنها لهذا الشاب الأشعث الخجول الذي كان مندسا بينهم، والذي كان قد وصل لتوه هاربا من الملاحقة وأسباب الخوف.
وقتئذ، كانت حركة «شعر» في لبنان برئاسة الشاعر الراحل يوسف الخال قد فتحت الأفق من جديد لجرأة التجريب الشعري والبحث عن مكان لما سمي خطأ بقصيدة النثر الشعر الحر على مساحات خريطة الشعر العربي الجديد فانطلقت أصوات خلاقة تكتب حرية الفكر واللغة والذات بحرية الشكل الشعري والجمالي، أصوات كان من أبرزها الراحل محمد الماغوط بلا شك، لكن كان بينها شعراء آخرون كبار كأنسي الحاج، فؤاد رفقة وشوقي أبي شقرا وطبعا، أدونيس الذي نشر عندئذ أول نص عن «قصيدة النثر» أصبحت له لاحقا قيمة تاريخية توثيقية أساسية الى جانب نص أنسي الحاج الذي وضعه كمقدمة لديوانه الشعري الأول «لن».
ومنذ مجموعته الشعرية الأولى «حزن في ضوء القمر» 1959، ثم عمله الثاني «غرفة بملايين الجدران» 1960، وصولا إلى عمله الثالث الأكثر شهرة «الفرح ليس مهنتي» 1970، رسخ الماغوط أسلوبا جديدا وفذا في الكتابة الشعرية المعاصرة بل تخطى أسلوبه الشعري فضاء الكتابة كسواد على بياض الصفحات، ليصبح - تقريبا - أسلوب حياة وأصبح الواقع الشعري المتخيل، إعادة ترتيب مفارق للواقع المادي والذهني اليومي وفيما كان الشاعر يبادل أصدقاءه البسمة والفرح العام، كان يحتفظ ببلور حزنه للقصيدة ولعل الماغوط برؤيته الشعرية الأسيانة كان أحد أهم شعراء الإنسانية احتفاء بالحزن، وبالاخفاق والخيبة، وانكسارات النفس العزلاء، بل كان في الكثير من الأحيان «ينتصر» للهزيمة ويتفهم جروح المهزومين. فقد كان شاعرا طفلا لا يعرف كيف يزور الأسماء، ولم تكن له دبلوماسية الكلام التي تفضل الصمت أو تختار العبارة التي تقول الواقع وضده في الوقت نفسه.
وبالنسبة إلينا في المغرب، في المغرب الثقافي والأدبي، لم ننجح في استضافة المرحوم محمد الماغوط. كان يعتذر لأسباب صحية، وحين قبل مرة بفرح، دعوة من اتحاد كتاب المغرب، ومن إدارة المهرجان الدولي بالرباط، فوجئنا بكونه فضل في آخر لحظة دعوة أخرى من هولندا، وعلمنا أن وضعه الصحي لم يكن يحتمل أكثر من سفرين بعيدين، وأنه اختار أن يسافر ليقرأ شعرا وليعرض نفسه على أطباء أوروبيين، ولم نيأس من أن يحضر بيننا في إحدى المناسبات، لكن حالته الصحية كانت قد بدأت تزداد سوءا، خصوصا حين آثر العزلة والشراب المسرف الفادح وترك جسده يتضخم بصورة مقلقة، وأصبحت العكازة ترافق رجفة يده.
ومع ذلك، أحببناه كمرجع شعري عميق صادق، بالمعنى الجمالي والأخلاقي، وككاتب مسرحي ودرامي مدهش، سواء في أعماله المسرحية: شقائق النعمان، العصفور الأحدب، المهرج، ضيعة تشرين، كأسك يا وطن، غربة. أو في أعماله السينمائية والتلفزيونية مثل: الحدود، التقرير والدغري، والتي ساعد بعضها الفنان دريد لحام على الانتشار والتألق والشهرة الواسعة، قبل أن تتصدع العلاقة بين الرجلين. وحضر الماغوط في المتن النقدي المغربي، في كتب وأطاريح ودراسات جامعية حسن مخافي، محمد الصالحي، عبد القادر الغزالي... وكان عبد اللطيف اللعبي أول من ترجمه للفرنسية. كما احتفت فرقة «مسرح اليوم» المسرحية برئاسة الفنانة القديرة ثريا جبران وإخراج الأخ عبد الواحد عوزري بكتابات الماغوط الصحافية في مسرحية «بلا حدود»، أول عمل دشنت به الفرقة ذخيرتها الإبداعية وكم كان الجمهور المغربي يردد مع الفرقة كلاما عاديا بسيطا كان يرتقي الى مستوى الصلاة الشعرية اليائسة: «يا إلهنا، اعطنا أرجل العنكبوت، لنتعلق بسقف الوطن، حتى تمر هذه المرحلة!».
رحم الله محمد الماغوط، لقد فقدنا برحيله شاعرا عظيما.
حسن نجمي
شاعر وصحافي - رئيس اتحاد كتاب المغرب سابقا
دمشق - فايز سارة
في يوم واحد شيعت سورية اثنين من كبار اعلام الثقافة السورية في القرن الماضي. كان الاول محمد الماغوط الشاعر والكاتب والمسرحي الذي ترك بصمة ستظل حاضرة في الساحة الثقافية العربية من خلال نتاجه المتعدد، ثم عبدالسلام العجيلي الذي رحل بعده بيومين، وكان هو الآخر بين ابرز المبدعين السوريين في كتاباته التي اثمرت قصة ورواية وحكايا عن حياة الناس وهمومهم وآمالهم، وكلها بعض مما انشغل به العجيلي في حياته، التي كانت فيها محطات مميزة، تشير اليها تطورات في حياته منها انضمامه إلى صفوف المتطوعين العرب للحرب في فلسطين اثناء حرب العام 1948، وانخراطه في النضال البرلماني في سورية عندما انتخب عضوا في انتخابات العام 1948، ومشاركته في التصدي للمسئولية السياسية في سورية، عندما تولى مناصب وزراية ثلاثة، فصار وزيراً للثقافة والاعلام، وولي وزارة الخارجية بالنيابة، والخطوة الاخيرة، جعلته يخرج من السياق الاخير بعد ان تولى البعث زمام السلطة في الانقلاب العسكري في اوائل مارس/ آذار من العام 1963، وكأنما اراد العجيلي في خروجه ذاك، أن يفصل نفسه عن النظام السياسي الذي تطور اليه البعث لاحقاً. الطريق إلى سلمية مدينة الشاعر الراحل محمد الماغوط، جزء من الطريق إلى الرقة مدينة العجيلي، وبصورة تقريبية تقع السلمية في وسط الطريق من دمشق إلى الرقة، وأكثره طريق صحراوي، ولعل في هذه السمة بعضاً مما ترك ملامحه على ابناء تلك المنطقة، بما هم عليه من خشونة في الحياة والعيش، وفقر يكاد يكون عاماً على رغم ما يقال عن خيرات الرقة، وهذا لم يمنع تمتع اهالي سلمية والرقة على السواء بكثير من الحساسية والاحساس بالآخرين وبالمحيط، وربما يكون في تعبيرات ذلك، حشد كبير من الكتاب والشعراء الذين ولدوا وعرفوا من ابناء تلك المنطقة، وكان بينهما الماغوط والعجيلي، والتعبير الثاني قائم في حس الاكثرية الشعبية في غياب الرجلين بما يمثلانه من حضور ثقافي، إذ انتشرت صور ونعوى الراحلين، وكان لهما تشييع قلما صار مثله في حجمه واهميته.
غير أن تشارك الاثنين فيما سبق، لم يمنع افتراقهما في أمور أخرى. ففي الوقت الذي كان هناك حضور رسمي كبير في جنازة الماغوط، فان ذلك الحضور كان محدوداً في تشييع العجيلي، وقد تضمنت وصية العجيلي، ان يأخذ تشييعه طابعاً شعبياً لا رسمياً، لكن ذلك لم يمنع حضوراً رسمياً في التشييع والعزاء كان بين حضوره وزير الثقافة ومحافظ الرقة، فيما كان الحضور الرسمي اوسع في تشييع الماغوط وفي عزائه، وضم وزراء وآخرين سابقين ومحافظين ومديرين عامين، وحضرت اكاليل ورد من كبار المسئولين في الدولة. وكان من اللافت للنظر في تشييع الراحلين وفي خيمة عزائهما، حضور الجماعات السياسية السورية المختلفة، فقد حضر ممثلون عن احزاب الجبهة الوطنية التقدمية، التي يقودها حزب البعث الحاكم إلى جانب احزاب المعارضة بما فيها الاحزاب المنضوية تحت اعلان دمشق للتغيير الوطني الديمقراطي ونشطاء في المجتمع المدني ومنظمات حقوق الانسان السورية، وكان من المميز حضور الحزب السوري القومي الاجتماعي في مأتم الماغوط الذي طالما جرى اعتباره وجها من وجوه ذلك الحزب، على رغم ان الماغوط شرح في أكثر من حوار معه السبب الطريف في انضوائه تحت لواء ذلك الحزب بالقول، انه فضل انتسابه للحزب السوري القومي على الانتساب إلى حزب البعث لقرب مقر الاول من بيته في سلمية، ولان مقر الحزب القومي كانت فيه مدفأة تقي المنتسبين اليه برد الشتاء عندما يأتون إلى مقر الحزب!
لقد مضى العجيلي في حياته من دون ان ينخرط في نشاط حزبي، مفضلاً ان يكون بشخصه معلماً لا في انتسابه إلى حزب، لكن العجيلي وقد عرفت عنه تلك الخصوصية، لم يتأخر في الانتساب إلى مدينة الرقة، فرفض طوال حياته ان يغادرها ليقيم في سواها من المدن على رغم كل الاغراءات، فربط حضوره باسمها، ولم يكن بالامكان طوال عقود من السنوات، ان تذكر الرقة من دون ان يخطر بالبال اسم عبد السلام العجيلي، وكان تعبير الارتباط بين الاثنين، ان تفتح المدينة المفجوعة قلبها الحاني، لتضم في اعماقها رفاة العجيلي إلى أبد الآبدين.
من مجموعة (الفرح ليس مهنتي) 1970
طفولتي بعيدة... وكهولتي بعيدة...
وطني بعيد... ومنفاي بعيد
أيها السائح
أعطني منظارك المقرِّب
علَّني ألمح يداً أو محرمةً في هذا الكون تومئ إليّ
صورني وأنا أبكي
وأنا أقعي بأسمالي أمام عتبة الفندق
وأكتبْ على قفا الصورة
هذا شاعرٌ من الشرق
ضعْ منديلك الأبيض على الرصيف
واجلسْ إلى جانبي تحت هذا المطر الحنون
لأبوح لك بسر خطير
اصرفْ أدلاءك ومرشديك
والقِ إلى الوحل... إلى النار
بكل ما كتبت من حواش وانطباعات
إن أيّ فلاح عجوز
يروي لك... بيتين من العتابا
كل تاريخ الشرق
وهو يدرج لفافته أمام خيمت
شعر - محمد الماغوط
المرأة التي أحلم بها
لا تأكل ولا تشرب ولا تنام
إنها ترتعش فقط
ترتمي بين ذراعيّ وتستقيم
كسيف في آخر اهتزازه
آه... أين هؤلاء النسوة الرخيصات
من صبايانا القاسيات الخجولات
حيث لحمهن قاتم ومريح
كسرير من مطر
كسرير من الدمع والمطر
حيث القش والندى والسمّاق
يفور من حلماتهن
كما يفور الدم من الوريد إلى الوريد
المرأة هناك
شعرها يطول كالعشب
يزهر ويتجعّد
يذوي ويصفرّ
ويرخي بذوره على الكتفين
ويسقط بين يديك كالدمع
النهد هناك
مجهول وعائم كالأحراش
ينفتح أمامك... كغيمة
كغيمة يخترقها عصفور
أينما ذهبت في الفضاء الواسع
كروم وينابيع وأمطار
حقول ونسيم وشرف
أما هنا
فللمرأة رائحة الدم وعبير المقصلة
النهد هناك صغير كالزهرة
والنهد هنا كبير كالرأس
كن وحيداً في الريف
بين القمر والأكواخ
وخذ فتاتك الخجولة وراء الغدير
تحت شجرة
أو غراف تعشش فيه النجوم والعصافير
هناك تنفض عن نفسها الغبار
تغسل وجهها وساقيها بالراحتين
تمد لك فراشاً من العشب والخرز وصرر الطعام
وتنبض بين ذراعيك حتى الصباح
!! دون أن تلتقي عيناك بعينيها
قد تنال منها حتى أحشاءها
!! دون أن تلتقي عيناك بعينيها
العدد 1315 - الأربعاء 12 أبريل 2006م الموافق 13 ربيع الاول 1427هـ