العدد 1319 - الأحد 16 أبريل 2006م الموافق 17 ربيع الاول 1427هـ

الولاء والخيانة لا مذهب لهما

الشيخ محمد الصفار mohd.alsaffar [at] alwasatnews.com

الآن وقد تراكمت الفواتير الأميركية محملة بالأثمان الباهظة التي تدفعها الولايات المتحدة يومياً في العراق، ضمن استنزاف تتصاعد وتيرته لتصيب القادة (الأميركيين) بالهستيريا والهذيان، تحاول الولايات المتحدة الأميركية توجيه الغضب عليها نحو الداخل العراقي، لتشغله ببعضه علّها تستنزف قواه، ويخلو لها الجو صافياً في قولبته وعجنه كما تريد.

منذ بدأ صراع الإرادات الطبيعي بين السنة والشيعة والأكراد وبقية القوى الفاعلة في العراق على الدستور والانتخابات وتشكيل الحكومة أو المرشح لها من الائتلاف أو غير ذلك من الصراعات السياسية والمحاصصية (الاعتيادية في مثل وضع العراق) والولايات المتحدة بحشودها وجنودها المنبثين بين ذرات التراب العراقي الدامي لا تخفي الامتعاض من قدرة الأطراف على ضبط النفس بعيداً عن مستنقعات الدم الداخلي. هنا أوعز الأميركيون لسفيرهم في العراق ليقوم بواجبه في إثارة النزعات الطائفية بما أوتي من دهاء ومكر، وهو مع إدارته ودولته حين يقومون بذلك فما ذاك إلا امتثالاً لواجب تفرضه عليهم سياستهم أين حلّوا، وإلى أي شبر وصلوا، ولا عتب، فذاك ديدنهم وتلك طريقتهم، ولا يرجى منهم غير ذلك. لقد أدرك الأميركيون أنهم لن ينجحوا ولن تتحقق أهدافهم إلا إذا لقيت دعواتهم آذاناً صاغية، وأعينت من طرفين رئيسيين لهما ثقلهما في تحديد بوصلة الشعوب وتوجيهها.

الطرف الأول هي المؤسسات الدينية الرسمية منها وغير الرسمية في هذا الطيف أو ذاك، والطرف الثاني هم القادة السياسيون وأصحاب القرار في الوطن العربي والإسلامي، الطرف الأول بما له من هيمنة روحية ونفسية على الناس، والطرف الثاني بما يمتلك من قدرات إعلام وإجراءات قانونية وميدانية.

مهم جداً أن يتسلح هذان الطرفان بالحكمة والحذر الشديد، وأن يتأملا مصالح شعوبهم وأوطانهم كي لا تنزلق المنطقة إلى الوحل الطائفي القذر (لا سمح الله) فيهلك فيها الحرث والنسل، ويحل الدمار، ويكون المنتصر هو العدو المشترك للجميع.

إننا في منعطف من أشد المنعطفات وأكثرها حرجاً، ما يستوجب منا أن نتحاشى الإثارات وأن نقلع عن الاتهامات التي ترسل على عواهنها إرسال المسلمات، وأن نضع حداً للتعميمات والأحكام المطلقة التي لا تكشف عن وعي ولا تنبئ عن بصيرة، وخصوصاً إذا بنيت على استقراء ناقص، أو توهم وتحليل مبتور من سياقاته، أو بسبب فشل وإحباط يربك العقل ويفقد المرء قدرته على الاتزان، لتصبح آراؤه أقرب إلى المراهقة والعنترية والتعجل.

إنكم أيها القادة مؤتمنون على مصالح العباد والبلاد، فاتقوا الله في تصريحاتكم ورسائلكم التي ترسلونها لشعوبكم، كي لا يكون الكلام تحريضاً لفئات المجتمع على بعضها، ودقاً لطبول الحرب بينها، وإيغاراً للنفوس المتحابة.

إن الانتماء للوطن وحبه والدفاع عنه واجب وشرف كبير، فقد ورد في الأثر أن «حب الوطن من الإيمان»، فلابد من تنزيهه عن الابتزاز والمساومات واللعب بأوراق المقامرة في أروقة السياسة، وأسواق الإعلام، ولابد من إبعاده عن الإقحامات المصطنعة والمتكلفة.

الولاء للوطن لا يتلون بلون، ولا يتمذهب بمذهب، لأن الدين والمذهب ليسا ألواناً لولاء الإنسان لأرضه ووطنه، كما أنهما ليسا معوقين ولا طاردين لهذا الولاء كي يبحث عن مأواه خارج الأسوار، ولوضع النقاط على الحروف فإن السني في إيران هو إيراني يعتز بأرضه ويفخر بإيرانيته، ولا يخون بلده لأن هذا خلاف فطرته وخلقه ودينه، والشيعي حيث كان يفخر ببلده وخليجيته إن كان خليجياً، ويعتز بسعوديته وقطريته وكويتيته وبحرينيته، ويرى ذلك منسجماً مع فطرته وخلقه وكماله، ويعتبر أي تهاون في ولائه لوطنه أو قيادته في بلده لصالح أية قيادة أخرى خيانة للوطن ولترابه المقدس.

في الجانب الآخر، فإن الخيانة للأوطان ليس لها لون ولا دين ولا مذهب، فالجزائر التي انفلتت الجماعات فيها في منتصف الثمانينات وراحت تقتل وتذبح وتستبيح الأموال والدماء، هل كانت خيانتها نتيجة دين أو مذهب؟ والجماعات التي حولت السياحة والمناطق الحيوية في مصر إلى أهداف مشروعة لعملياتها الإرهابية، هل كانت خيانتها نتيجة دين أو مذهب؟ وفي بلادنا (المملكة العربية السعودية) لا تخلو أيام الأسبوع من مطاردة وانتصار تحققه الدولة في إلقاء القبض على مجاميع من المهيئين لنسف الأمن الوطني، وإرعاب أهله والعبث بخيراته، فهل هؤلاء حصاد دين أو مذهب؟ حاشا أن تكون الأديان والمذاهب الإسلامية أقنعة للجريمة والخيانة، وإنه لمن شطط القول وتعثر الحظ أن يَخلُط الأوراقَ العارفون بفواصلها وتبايناتها، فيوقعون شعوبهم في الفتنة والحرج.

هنا سؤال أرجو أن يكون في مكانه، وهو أن البريطاني المسلم في بلده (بريطانيا) هل يشترط فيه حتى يكون مواطناً صادقاً (شروطاً إضافية أخرى تختلف عن البريطاني المسيحي)، كأن يعادي المسلمين، ويتبرأ منهم، ويقاطع مؤسساتهم الدينية التي يحتاجها في أحكامه وعباداته، كي ينال صك البراءة عما هو خارج سياج الوطن؟

وهل يشترط في المسيحي الحامل لجنسية مملكة البحرين مثلاً، شروط إضافية أخرى (تختلف عن المسلم البحريني) حتى يثبت ولاءه لمملكة البحرين، كأن يعادي عالمه المسيحي، وزعامته الروحية؟

وهل يلزم للقبطي المصري أن يحمل لافتة يعلن فيها سخطه ومقاطعته لعالمِه الديني ومرجعياته الروحية كي يتساوى مع المسلم المصري في وطنيته وإخلاصه وصدقه؟

إننا بحاجة في الحديث عن الوطن والمواطنة إلى لغة راقية، طاهرة المنبت، سامية المعاني، بعيدة عن لغة البلطجة والهوى والمزاج السياسي، الذي قد يجر في سكرته إلى الويلات والاتهامات والتجنيات الرخيصة.

وليس أمام الشعوب إذا اتهمت في وطنيتها وولائها لترابها إلا أن تكون صاحبة الكلمة الفصل، فتنبري بعزيمتها وتوثبها لتثبت الولاء لوطنها وترفض الكذب والتجرؤ والتدليس عليها، لأنها تعي الوطن شرفاً ووساماً وخلقاً يتقمصه الأحرار.

كاتب وعالم دين من السعودية

إقرأ أيضا لـ "الشيخ محمد الصفار"

العدد 1319 - الأحد 16 أبريل 2006م الموافق 17 ربيع الاول 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً