العدد 3198 - الخميس 09 يونيو 2011م الموافق 08 رجب 1432هـ

أردوغان... سجيناً

قاسم حسين Kassim.Hussain [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

في موسم الانتخابات التركية، عرضت «الجزيرة» برنامجاً خاصاً عن حياة رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان.

سبقت ذلك إعلانات تمهيدية مشوقة لأكثر من أسبوعين، عن ذهابه إلى الناس في مدنهم وقراهم، واختار المخرج بعض الكلمات التي تشد المشاهدين: «نحن لم نخدع أحداً، ولا نريد لأحد أن يخدعنا». ويخاطب جماهير شعبه: «لقد حلمنا معاً، وتبللنا معاً تحت المطر»، وغيرها من كلمات الود التي تأسر القلوب.

أردوغان من النخبة الإسلامية، التي خاضت معترك السياسة، وتعاملت مع الواقع، وواجهت الضغوط والانقلابات العسكرية وقاومت عمليات الإقصاء. وحين اتهمه النظام بالتحريض على الكراهية الدينية ومنعه من العمل الحكومي وحكم عليه بالسجن ستة أشهر، قال: «سنواصل نضالنا الديمقراطي الحر حتى النهاية... لن نطأطئ رؤوسنا أمام الظلم والاضطهاد». وتحدث عن هذه التجربة بمفرداتٍ من القاموس الديني العميق: «كان كبارنا وعلماؤنا يصفون السجن بالمدرسة اليوسفية (نسبة إلى النبي يوسف عليه السلام الذي سُجن مظلوماً)، وهذا الشيء لا يفهمه الآخرون... فأنت في السجن تعرف نفسك. تعيش ظرفاً صعباً، وتفكر بعائلتك التي تعاني في الخارج».

من داخل السجن كان يراقب الوضع العام وينادي بضرورة إصلاح السياسة الملوثة واستبدالها بسياسة نظيفة، تقوم على قاعدةٍ بشريةٍ ملتزمةٍ لتحتضن أفكاره. وهكذا كانت الحركة الإسلامية التركية تنزل إلى الشعب، ويسمع أقطابها للفقراء، ولا تستنكف كوادرها عالية التعليم من دخول بيوتهم. في مناظرة تلفزيونية تحدث أردوغان مع منافسه بفخر عن ماضيه: «كان عليَّ أن أبيع البطيخ لأساعد أبي الفقير، وأدبِّر مصروفي الدراسي». وقبل سنوات، في غمرة احتفالات شمال قبرص بيوم الاستقلال، شاهدته يتقدَّم من سيدةٍ عجوز تجلس على الأرض، وتعد خبزاً شعبياً في بهو الفندق، أخذ يتحدث إليها وتناول قرصاً من يدها وأخذ يأكله. كانت خدمة الناس شعارهم، ومارسوها في حياتهم، فحظوا بثقتهم في الانتخابات.

كانت التجربة تقوم على عمل اجتماعي مؤسساتي، أنشأوا الشركات، وأقاموا أكثر من 800 مدرسة دينية، قابلت أحدهم قبل سنوات (وكان نائباً في برلمان إحدى الدول الأوروبية)، وكان يفتخر بأنه إسلامي من خريجي تلك المدارس التي حفظت الهوية وقاومت التغريب.

الشعوب التي تعاني في يومياتها من الفقر، تحتاج إلى مؤسساتٍ تبلسم جراحها، فأنشأوا أكثر من 500 صندوق تبرعات و2500 جمعية خيرية، فالشعارات الجميلة «لا تشبع جائعاً ولا تكسي عرياناً» كما كان يقول المهاتما غاندي عن الشعر الجميل. كما اهتموا بتقديم المنح والبعثات الدراسية للخريجين لطلب العلم في الخارج، بما فيها بعض الدول العربية، ولذلك تجد كثيراً من المتحدثين بينهم يجيدون اللغة العربية.

يقولون «الرجال مواقف»، وأردوغان عُرف بمواقفه السياسية الجريئة، وكان من أوائل المنتقدين لـ «إسرائيل» على جرائمها، وعندما اغتالت الشيخ أحمد ياسين رحمه الله، اتهمها بـ «إرهاب الدولة»، وقال: «لو لم أفعل ذلك لكنت استحي من نفسي أولاً، ومن ديني ثانياً، فهم استهدفوا رجلاً مشلولاً». واصطدم مع الصهيوني شمعون بيريز في دافوس بسبب قتل الأطفال في حرب غزة، بينما كان أمين عام الجامعة العربية عمرو موسى جالساً مخدَّراً في كرسيه على بعد ثلاثة أمتار، وأعلن انسحابه من المؤتمر الذي يتهافت على حضوره كبار ساسة العالم.

في ديسمبر/ كانون الأول الماضي، كانت له إطلالةٌ تاريخيةٌ جميلةٌ على ملايين المسلمين الشيعة من مواطنيه في ذكرى عاشوراء، خاطبهم بقوله: «لست هنا لأشارك في مصابكم بل في مصابنا جميعاً. فالحسين قـُتل بوحشية، والشهادة التي عرفتها كربلاء تجرح في الصميم كل المؤمنين الذين يحبون أهل البيت». وأضاف أن «صلواتنا وبكاءنا وصرخاتنا تدوِّي في السماء منذ 1370 عاماً. نحن لا نريد أن تتكرر فاجعة كربلاء في عالمنا المعاصر، فقلوبنا جميعاً قد احترقت بمصاب الحسين». فكرة تكرار كربلاء كانت تؤرقه كما يبدو، ولذلك كان يكرر تحذيراته في مناسبات أخرى.

ليس هناك سياسة مثالية ولا ساسة كاملون، ولكن أردوغان نموذجٌ للمثقف الإسلامي الحقيقي الذي قلَّ وجوده في هذا الزمان

إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"

العدد 3198 - الخميس 09 يونيو 2011م الموافق 08 رجب 1432هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 1 | 10:58 ص

      شكرًا لكم

      رجل ًذاق الجوع والفقر ، لابد من مواساته وإحساسه بهذه الطبقه من الناس ..

    • زائر 12 | 10:13 ص

      مقال جميل جدا

      شكرا لكم

    • زائر 11 | 6:52 ص

      يعجبني من لا يتعصب

      بداية شكرا لفتح مجال التعليق ثانية
      ان اعقل الناس وافضلهم من يري الحق حقا بغض النظر الى المذهب والدين والتعصب الاعمى... فمثل اردوغان يستحق كل الشكر والثناء ويا حبذا يستفيد منه الآخرون

    • زائر 10 | 6:33 ص

      شكراً للوسط

      نرجوان تكون بداية عودة لما كنتم ليه

    • زائر 9 | 4:18 ص

      مشكور يا الذكي اللبق

      مبرووووووووووك لعودة التغليقات.
      "فكرة تكرار كربلاء كانت تؤرقه كما يبدو، ولذلك كان يكرر تحذيراته في مناسبات أخرى." هذه الجملة عجبتنا بها ذكاء لبق.

    • زائر 7 | 3:46 ص

      الله يحفظك سيد

      وفقكم الله وسدد على طريق الخير خطاكم وجمعة مباركة عامرة بالخيرات والعمل الصالح

    • زائر 5 | 3:39 ص

      مثل مصري يقول

      ياما في السجن من مظاليم.

    • زائر 4 | 3:38 ص

      مقال إنساني جميل

      مقال يعبر خير تعبير عن الانفتاح والمحبة وسعة الأفق وعدم تصنيف الناس على اساس مذاهبهم وطوائفهم. هذه هي رحابة الاسلام تتكلم عن المجاهد الشهيد احمد ياسين وعن اردوغان وغاندي. اين اولئك الذين يضيقون ذرعاً بالآخر من ابناء وطنهم ويريدون التخلص منه ومحاصرته واقصاءه.

    • زائر 3 | 3:16 ص

      شكرا لك على هذا المقال

      بمقالاتك تخاطب القلوب
      نسأل الله التوفيق للجميع
      ولوطننا الأمن والأمان
      ولشعبنا التماسك تحت شعار الوحدة الوطنية

اقرأ ايضاً