العدد 3200 - السبت 11 يونيو 2011م الموافق 10 رجب 1432هـ

«ساق الغراب»... الوجود الإنساني بين نقاء الطبيعة واغتراب السلطة

عبدالمجيد دقنيش

بعد صدورها في طبعة أولى بدار الأداب العام 2008، هاهي دار الجنوب للنشر بتونس تعيد طباعة ونشر رواية «ساق الغراب» للكاتب السعودي يحي امقاسم الذي عرفناه من قبل في بعض الاصدارات القصصية على غرار مجموعة «المخش» الصادرة العام 2000 عن دار الكنوز ببيروت، وكذلك قصص من السعودية صدرت بصنعاء العام 2004.

وفي باكورة أعماله الروائية يرحل بنا امقاسم عبر لعبة القص والفلاش باك الى قرية «عصيرة» جنوب غربي السعودية حيث نتعرف على كائنات روائية خيالية وواقعية تضج حركة وأحلاماً وثورة وخنوعاً وانقساماً وجنوناً على غرار حمود الخير وأمه وابن الطبيعة وريادة الأحلام وشريفة وبيشة بن سالم وبيشة بن مشيط وبيشة النخل ورغدان وحجلة وأبوحشفة.

ولكن هذه الشخصيات تتحرك في فضاء يتراوح بين الخيال والواقع، وفي زمان انقسم الى مرحلتين محددتين حملتا التوجه الفني القصصي لرواية ساق الغراب؛ إذ تطل بنا الأحداث على أطلال المجتمع القبلي وبقاياه المتناثرة بشبه الجزيرة العربية، وفي الوقت نفسه تنفتح على المجتمع الحديث ومرحلة ظهور السلطة والتحولات التي أصابت هذا المجتمع وغيرته من مجتمع قبلي رعوي الى «مجتمع مدني» مازال يبحث عن مكانه.

ومع كل هذه التحولات والتغيرات نلمس نظرة الكاتب للأشياء وتوجهه الفني وأيديولوجيته وتحريكه لشخصياته المختلقة ودماه التي أصابتنا بالدوار من كثرة رقصها ومواقفها المتحولة، ههنا فقط تنقشع الغيوم الملبدة من أمامنا ونكتشف حقيقة الأوضاع والأحداث الروائية التي لا تتمثل الواقع المعيش بقدر ما تحاول اختلاق واقع آخر مختلف تماماً.

ولعل كلمات الناقد فيصل دراج التي جاءت في مقدمة هذه الرواية توضح لنا الكثير من الأوضاع والحقائق حيث يقول: «انطلق الكاتب من مكان يعرفه ورجع الى زمن مضى وجمع حكاياته.يتمثل المكان بقرية عصيرة، النازلة في وادي الحسيني جنوب غربي السعودية ويتراءى الزمن في ماضي قريب يسبق القرن العشرين أو يتلوه بمقادير محدودة».

وسواء كان الزمن واضحاً أو يعوزه شيء من الوضوح فهو قائم في زمن سبق استقرار السلطة كما لوكان الروائي يفصل فصلاً كاملاً بين زمنين: زمن أول يدع الانسان مع عفوية طليقة؛ الا ما تأمر به سنن الطبيعة، وزمن لاحق تضبط فيه السلطة معيش البشر. ومع أن دلالات الزمان والمكان تصدر عن متواليات حكائية خطاباً روائياً عن الطبيعة والسلطة وتبدل أقدار البشر فهي صادرة أولاً عن شغف الروائي بموضوعه الذي جعل أرواح الأجداد ماثلة في أحفادهم.

ولعل هذا الشغف الذي يحتفي بقيم راحلة هو الذي يضع في النص الحكائي الذي يستولد حكاية من أخرى، نصاً آخر يساوي بين الحكاية وجمالية سردها، مؤكداً أن وفاء الأحياء للأموات يأتي من شكل الكتابة لا من موضوعها.

تستهل الرواية بزمن ملحمي يوائم موضوعه قبل أن تفرض تحولات البشر زمناً تراجيدياً يقود الانسان الى مصير لا يستطيع التحرر منه.

يترجم الزمن الأول علاقة الانسان بالطبيعة،حين تكون أماً له ويكون امتداداً لها، يتبادلان الألفة والحماية، بعيداً عن العسف وعما يكسر علاقة متوازنة متوارثة لا جور فيها ولا مفاجآت.

ولهذا يبدو الفضاء الملحمي يعابث فيه «ابن الطبيعة» أمه فضاء مغلقاً له سننه المتوالدة وله حكمته التي تواسي «ابن الطبيعة» وتعالج قضاياه.

تشكل الطبيعة في هذا الفضاء مرجعاً للانسان متعدد الوجوه يعلمه الاقتصاد والوفرة، ويفصل بين الطمأنينة والمغامرة،ويقيم له الحدود بين المقدس والمدنس.

كما لو كان خارج الانسان داخله، أو كان في خارجه ما يأخذ بداخله الى طريق الصواب. وبسبب ذلك يقدر «الانسان الطبيعي» المسافة باشارات من الطبيعة متكئ على «عدد التلال» أو تخوم «برك المياه» التي يعرفها واحدة واحدة؛.بل إنه يميز من الحشرات بين رسل الخير والعطاء» واشارات الشر والوعيد، فيضع على الأولى خيطاً من ثيابه ويتطير من الثانية ويلتمس النجاة».

ومن هنا نلمس هذا الذوبان والتواشج بين البعد الفني والبعد الفكري إن صحت العبارة، فقد قرأ الروائي موضوعه في علاقاته المختلفة، ووضعه في شكل فني مطابق، ذلك أن الملحمة زمن الرضا المقتصد بالأسئلة الذي يجيب عن المعلوم بمعلوم آخر، ويترك الطبيعة تجيب عن المجهول المحتمل، فلا يسأل عن السعادة إلا من افتقدها، ولا يسائل الشقاء الا من غادرته السعادة.

وإنسان الطبيعة كما تصفه «ساق الغراب» هو الذي أدمن على المتاح ووحد بين المتوقع واللامتوقع في أن ولن يكون معتقده الديني الذي يحيل على عقيدة الاسلام إلا صورة عن «متاح» لا يعرف التطرف والتزيد يلبي حاجة انسانية متوارثة تنوس بين الخوف والموت ويلبي الانسان تعاليمه بيسر كبير.

تنبثق تصورات «ابن الطبيعة» من «الجوهر الانساني» الذي يرضى معتقداً لا يرهقه ولا يملي عليه ما لم يتعود عليه.

توحد أولوية الجوهر الانساني على المعطى الديني بين الأزمنة المختلفة، فالحاضر هو الماضي والمستقبل امتدادا لهما، والقدر حاكم الأزمنة جميعا وبسبب ذلك لا يتعامل السرد الملحمي مع إنسان يسيطر على مصيره بل مع إنسان يقود مصيره الحميم إلى حيث يشاء.

لا غرابة والحال هذه أن تبقى الحكايات في الطور الملحمي حكاية واحدة وأن تكون الحكايات في ساق الغراب، على رغم اختلاف ظاهرها متناظرة في انتظار ما يقوض الزمن الملحمي ويستدعي زمناً آخر.»

هكذا تتوالد الحكايات والأحداث ليدخل القارىء في جوهر العملية الابداعية عند امقاسم الذي يحاول تلمس جوهر الانسان، فرداً كان أو جماعة، وتتبع آثار خطواته وتحولاته التي جعلته يرضخ «لقيم» الحاضر المشوه ويهجر قيم العفة والنبل والشجاعة والكرم، إنه انسلاخ «ابن الطبيعة» عن قشرته الطبيعية وعفويته التي أهدته إياها الطبيعة، وجريه وتشبثه بأثواب الاحضارة البالية والزائفة التي تدخله في أنفاق مدنسة لا يستطيع أن يخرج منها بتاتاً فينسى كينونته وجوهره ومبادئه.

ولذلك يؤكد الكاتب دراج مرة أخرى هذه الثنائية التي تحكم رواية ساق الغارب قائلاً في هذا الصدد: «وواقع الأمر أن يحي أمقاسم وليس بعيداً عن الاستهلال الروائي لمدن الملح لعبد الرحمن منيف يرثي في ما مضى نسقاً أخلاقياً مضى قوامه الدفء الانساني واللعب وتضافر أبناء الطبيعة».

يعلن الروائي هذا الرثاء الذي يخالطه الحنين عن اخلاص الأحياء للأموات، الذين كانوا يعيشون في «وادي الحسيني» ذات مرة ويثني على الطبيعة المتسامحة التي لا تفصل الانسان عن دوافعه الطبيعية، ويقف الى جانب المهزومين الذين خسروا زمنهم الغنائي ورحلوا بالقوة الى زمن سلطوي مغاير(...) تتوالد المتواليات الحكائية متشجرة في الطور الغنائي وتقع في الطور اللاحق في التماثل الفقير، مصرحة بأن الحكاية الوحيدة هي: حكاية السلطة.

بعد زمن النعمة الذي يصالح بين الطبيعة والانسان، يأتي زمن المأساة الذي ينفي التصالح بعنف لا اقتصاد فيه. وبعد زمن الجماعة الطبيعية يأتي زمن التجمع «السلطوي».

أسس الروائي الزمن الأول على حكاية واحدة تتشجر في حكايات وأسس الزمن الثاني على بنية حكائية، حتشد بعناصر متعددة. أعلن في هذا الفرق المصاغ فنياً عن القطع الحاد بين زمنين أو عن رحيل الزمن الغنائي ووفود الزمن المأساوي».

هذه هي حكاية اغتراب الانسان في عالم كل ما فيه يسعى إلى تقليم أظافر الكائن البشري ونزع بردة الاحلام عنه وتمريغ رأسه بالتراب، إنها لعبة الأيام والتاريخ الذي يفكك أسراره ورموزه الكاتب امقاسم ليثبت تحكمه في الأحداث ووعيه باللعبة الفنية،» ومع أن القراءة الشكلانية تميز في النص الروائي الذي كتبه امقاسم بين التاريخ وما قبل التاريخ؛ إذ الأول هو السلطة والثاني فضاء له قيم وأعراف مغايرة، فإن الفلسفة الروائية التي أنتجها النص تقلب دلالة المقولتين، مؤكدة أن التاريخ الحقيقي هو تاريخ الجمال والتسامح والعشق وتساوي الرجل والمرأة وأن «ما قبل التاريخ» هو الزمن المقيد الذي يمحو نقاء القلب بغمغمة المقرئ، ويمحو الطبيعة البريئة السمحة بتعاليم تسخف الانسان وتحتفي بالبلاغة»

وتتوالد الأسئلة والحكايات التي تصب كلها في حكاية اغتراب الانسان وتحوله عن طبيعته؛ فتبرز الأسئلة الجوهرية لهذا العمل الروائي من وراء الأسئلة الفنية: «أين يتجلى التاريخ في رواية «ساق الغراب»؟ وما موقع الزمن التاريخي من مقولة الزمن التي هي قوام العمل الروائي ومرجعه؟ يتجلى الزمن في اغتراب الانسان الوجودي، الذي تغزوه الشيخوخة وينتقل من المتوقع الى اللامتوقع الذي يرمي به إلى مصير غير منتظر.

قرأ الروائي الاغتراب في شخصياته جميعاً وترك القارئ يتأمل ما يشاء.أما الزمن التاريخي فظهر عاري الوضوح في بعدين:الانتقال من مجتمع اللادولة إلى مجتمع الدولة، الذي يرفع الاغتراب إلى حدوده العليا حيث إرادة الإنسان من إرادة السلطة. يتكشف البعد الثاني في صناعة تصور جديد للعالم تقترحه السلطة وتطبقه أدواتها ويجتاح شيئاً فشيئاً وعي بشر كان لهم ذات مرة تصور مغاير للعالم.

تتحدد الدولة بهذا المعنى مرجعاً للقوانين والسنن وصانعاً جديداً للوجود الانساني، تبارك ما ترضى عنه وتقتلع ما ترغب عنه اقتلاعاً لا رحمة فيه».

ومثلما بيَّنا سابقاً أن الصياغة الفنية والحبكة القصصية خدمت إلى حد بعيد موضوع الرواية والأفكار المبثوثة فيها، فإننا نستطيع أن نستنتج في الأخير صفاء ونقاء اللغة التي كتب بها هذا العمل إلى درجة كونه مثل إضافة حقيقية للموضوع المشتغل عليه وهذا يعود إلى وعي الروائي امقاسم بهذه الوسيلة الفنية المهمة وهو ما جعله يجتهد «بشكل يقترب من الندرة، في توليد لغة تعادل موضوعه ورؤاه محولاً اللغة المكتوبة إلى منظور للعالم.

فاذا كانت اللغة من فكر الذي يكتبها فقد أراد الروائي المشدود إلى الجميل في وجوهه المختلفة، لغة «من موضوعه» تودع الجميل الذي مضى وتحتفظ به جميلاً في الذاكرة المكتوبة.

انطوت الكتابة التي ترثي مثالاً مهيباً اندثر، على الشعر والنثر وعلى ما هو قريب من التصوف. وفرض التصور الرومانسي للعالم الذي يخالط الرواية بأقدار مختلفة، نثراً ينزاح إلى الشعر ويتسع للأنا الكاتبة التي عينت ذاتها امتداداً لما كان، فهي وجه للأجداد وحنين الى الطبيعة وهي المتسائلة عن معنى الخير والشر والوجود (...) جمع امقاسم أسئلته الوجودية والتاريخية والجمالية وأذابها في رواية عنوانها «ساق الغراب» منتهيا الى نص جميل يثير الفضول، يسائل في حقبة منقضية معنى الوجود الإنساني كله»

إقرأ أيضا لـ " عبدالمجيد دقنيش"

العدد 3200 - السبت 11 يونيو 2011م الموافق 10 رجب 1432هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً