العدد 3229 - الأحد 10 يوليو 2011م الموافق 08 شعبان 1432هـ

مُثقفون تنويريون ولكن في جِلبَاب الدكتاتورية

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

يلهُو «بعض» المثقفين العرب بالعناوين فيُصدقوا أنهم في مقام المُعَنوَن. فهذا يدَّعي أنه علماني/ حداثي، لكنه عملياً وسلوكياً حليف للسلطة غير الديمقراطية الحاكمة. وهذا يدَّعي أنه يساري يتلمَّظ الشيوعية في مشربه ومأكله، لكنه يدخل الحدود على ظهر دبابة أميركية. وهذا يدَّعي أنه إسلامي متنسّك يخاف الله في شهيقه وزفيره لكنه يتحالف مع الحكَّام الظالمين، ناسياً كلمات التجييش لنصرة الحق التي أطرَب العالَم بها. وهذا يتدثر بلباس المُثقف، لكنه يُعادي سياسات تحرير الثقافة من القيود التي يفرضها الحكم غير الرشيد. إنها في الحقيقة مهزلة للفكر والعقل تؤكد أن فساد الحكم يعني فساد كلّ شيء.

في الثورات العربية التي بدأت عملياً في منتصف يناير الماضي بتونس ولم تنتهِ بعد، أصبحت تلك العناوين ومنتسبوها محَل نظر من قِبَل العديد من المراقبين. وربما وجه الغرابة الأكبر قد ظهَر على أداء التيار الليبرالي في العالَم العربي أكثر من غيره. فقد ظهر أن قطاعات غير قليلة من الليبرالية العربية لم تكن منسجمة الأفكار ما بين نظرياتها المدوَّنة وبين نشاطها العملي، وبالتحديد من موضوع التحالف مع الأنظمة السياسة القمعيّة سواء في سورية أو مصر أو تونس وغيرها من البلدان العربية وعدم مواكبة حركة التغيير السلمي التي كانت تستهدف تمكين الحريات وتعزيز دولة المؤسسات، والحد من الفساد وتدعيم مفهوم الشراكة السياسية وتكريس شعار وشعور الدولة المدنية.

لقد فتحت الثورات العربية الباب على مصراعيه لإجراء قياسات سياسية وفكرية عملية بيَّنت للجميع كيفية تموضع بعض منتسبي الأفكار ذات الشعار التقدمي مما يجري. وربما قادت أيضاً تلك القياسات إلى إعادة النظر في صِدقيَّة تلك الأفكار ومقاربتها مع تجارب سابقة حَمَلَت النتائج ذاتها بعد أن مارست ذات النهج السياسي والفكري، وهو تكرار واجترار للماضي والأداء فيه أفضى إلى أشبه ما يكون بالمنتَظَم التاريخي للفكر الليبرالي السياسي حتى لو حَمَلها طيفٌ قليل منهم؛ فالمهم في الأمر هو الموقع الزمني لذلك الأداء، وموقفه السلبي من حركات التغيير الديمقراطي والتي لا تنادي بأكثر مما يعتقد به الليبراليون نظرياً.

بالرجوع إلى التاريخ الأهم للإنسانية، وهو التطورات السياسية والفكرية والاجتماعية التي رافقت أوروبا خلال عصر الأنوار وانتقال القارة إلى مرحلة جديدة من العمل السياسي المؤسساتي الديمقراطي والتي دوّنها المؤرخون، نرى الحال ذاته بالنسبة لمواقف بعض القوى الليبرالية مما كان يجري من حِراك شعبي ونخبوي. ففي فرنسا وبعد العام 1789 وبعد استعار الثورة، دَفَعَت جموع أساسية من الليبراليين لأن تكون الجمعية التمثيلية التي قدِّمت كهيئة أساسية للحكم جمعية «غير منتخبة انتخاباً ديمقراطياً». بل الأكثر من ذلك وهو أنهم كانوا يُفضلون سلطة قائمة على حكم أوليغاركي يقوده ذوو الأملاك على قيام حكم ديمقراطي أوسع مثلما كانوا يُنادون به في أدبياتهم وشعاراتهم سابقاً.

وقد دوَّن التاريخ بأن بعضاً من ليبراليي الثورتين الفرنسية والصناعية (1789 و1848) من البرجوازية الكلاسيكية لم يكونوا ديمقراطيين بالشكل الذي يُحاكي التطورات السياسية والاجتماعية على الأرض. فخلال القرن التاسع عشر وبالتحديد في ألمانيا، لم يكن الليبراليون (في أغلبهم) ميَّالِين لبدء الثورة السياسية أو الاجتماعية لتغيير الأوضاع القائمة نحو الدَّمقرطة ومواكبة التغيير العارم الذي كان يجتاح القارة الأوروبية، وفضلوا أن يُقيموا صلحاً ومهادنة مع الحكم غير الرشيد ومع الأرستقراطية النافذة.

وحتى في بريطانيا التي كانت في موقع الصدى لإرهاصات الثورات الأوروبية، فقد أظهرت جموع من الليبراليين جُنوحاً قوياً نحو إيقاف المطالبة بالإصلاح السياسي الحقيقي، وانشغلوا بدل ذلك بالصراع مع اليسار الراديكالي الذي كانوا معه في حلف. وفي روما كان بعض الليبراليين الإيطاليين يُعوّلون كثيراً على الكنيسة الكاثوليكية لتوحيد إيطاليا من التقسيم كبديل عن الحركة الثورية، بحجَّة وجود البابا بيوس التاسع الذي كان يحمل توجهاً ليبيرالياً إلى حد ما، رغم أن الأمر لم يكن بتلك الصورة التي تخيّلوها، خصوصاً وأن الظاهرة «البيوسية» كانت قصيرة العمر، وقليلة العطاء.

للأسف كان الميْل السياسي بالنسبة لجزء مهم من الليبرالية الأوروبية هو عدم تشجيع الثورات الحمراء والاكتفاء بما تقدمه الأنظمة الرجعية، لذلك فلم تكن الأيديولوجيا الليبرالية حسب وصف هوبزباوم تتَّسِم بالتماسك أو الانسجام؛ بل إنها ظلت مشطورة ما بين المدرسة البراغماتية من جهة، والتنويعات المُعدَّلة على الوضع القائم (والسابق) لدرجة أنهم استغرقوا في اليقين الاجتماعي الذي أنتجه النظام الأوروبي السياسي القديم، وهو ما ولَّد غربة حضور لهذه القوى داخل نسيج التحركات والثورات السياسية والفكرية التي قادتها بقية التوجهات الأوروبية.

الغريب في ذلك الأوان أن بعض الحكام مِمَّن أطلِقَ عليهم في تلك الفترة مصطلح «الطغاة المستنيرون» كانوا أكثر تقدمية من هؤلاء الليبراليين. ففي امبراطورية الهابسبيرغ على سبيل المثال، قام جوزيف الثاني بإلغاء نظام الاسترقاق، وعَلْمَنَ جانباً كبيراً من أراضي الكنيسة في الثمانينيات من القرن الثامن عشر. في حين أن القوى التي كان من المفترض أن تقوم بظلّ السلطة الشعبية والمعنوية عبر السِّجال والمراقبة أصبحت تقوم بما كانت تقوم به الأديِرَة والكنائس حين وفَّرت الاستقرار السياسي والاجتماعي للأنظمة الرجعية القائمة في أوروبا وللطبقة الأرستقراطية.

ويبدو هنا أن التاريخ يُعيد نفسه اليوم مع الحراك العربي مثلما عادَ في موضوعات أخرى وهو منطق الحال بالنسبة لبعض الليبراليين العرب ومقاربته تاريخياً. فواقع الحال يقول إن هذه المجاميع ربما انحشرت في أفكار ليبرالية اجتماعية بحتة وتناست متطلبات الليبرالية السياسية التي تخص تهذيب الحكم السياسي ودفعه إلى الإصلاح لكي يُنتج مفاعيل اجتماعية أمتن، وهو أمر يجب أن يُعاد التفكير فيه جيداً من قِبَل هؤلاء، على الأقل لإيجاد انسجام حقيقي ما بين النظرية والتطبيق

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 3229 - الأحد 10 يوليو 2011م الموافق 08 شعبان 1432هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 3 | 8:47 ص

      لفت نظري

      لفت نظري هذه الجملة التي تقول فيها .
      وهذا يدَّعي أنه يساري يتلمَّظ الشيوعية في مشربه ومأكله، لكنه يدخل الحدود على ظهر دبابة أميركية. وهذا ... الخ . انا اعرف من تقصد في كلامك هذا ولكن ثق بالله لو كان في بلدانكم العربجية نصف طغيان ال العوجة وتكارتة العراق لأستعنتم حتى بالشيطان , ولا تنس الكيمياوي في الجنوب وفي حلبجة ولا تنس قصة الاربعين كاسب الذين اعدمهم الطاغية في محاكمة تمت في ساعة واحدة فقط , واليوتوب امامك

    • زائر 2 | 4:03 ص

      مثل اليوم

      دَفَعَت جموع أساسية من الليبراليين لأن تكون الجمعية التمثيلية التي قدِّمت كهيئة أساسية للحكم جمعية «غير منتخبة انتخاباً ديمقراطياً». بل الأكثر من ذلك وهو أنهم كانوا يُفضلون سلطة قائمة على حكم أوليغاركي يقوده ذوو الأملاك على قيام حكم ديمقراطي أوسع

    • زائر 1 | 2:26 ص

      ايجاد انسجام حقيقي ما بين النظرية والتطبيق

      ويبدو هنا أن التاريخ يُعيد نفسه اليوم مع الحراك العربي مثلما عادَ في موضوعات أخرى وهو منطق الحال بالنسبة لبعض الليبراليين العرب ومقاربته تاريخياً. فواقع الحال يقول إن هذه المجاميع ربما انحشرت في أفكار ليبرالية اجتماعية بحتة وتناست متطلبات الليبرالية السياسية التي تخص تهذيب الحكم السياسي ودفعه إلى الإصلاح لكي يُنتج مفاعيل اجتماعية أمتن، وهو أمر يجب أن يُعاد التفكير فيه جيداً من قِبَل هؤلاء، على الأقل لإيجاد انسجام حقيقي ما بين النظرية والتطبيق

اقرأ ايضاً