العدد 3249 - السبت 30 يوليو 2011م الموافق 28 شعبان 1432هـ

محمود درويش وبول تسيلان

الوطن في المنفى:

أنجليكا نويفيرت comments [at] alwasatnews.com

.

كيف يمكن للتجسيدات الأسطورية مثل الوطن منظوراً إليه في صورة العروس، والشهيد

في صورة المخلّص أن تلوح في ناظر الشاعر بعد انعتاقه من التطورات السياسية التي جرت منذ

العام 1982، وبعد أن دخل نهائياً في المنفى، في «بلد من كلام» كما صنّفه محمود درويش نفسه منذ العام 1986 ، في قصيدته «نسافر كالناس»؟ ما الذي يتبقى من النصوص المضادة التي كُتبت لكي تتحدّى تراث الآخر حين يكفّ الآخر عن مواجهة النفس، لأنه أصبح جزءاً من النفس؟

ودرويش، الذي يمكن اعتباره «مؤسس مادّة الخطاب» بحسب تعبير ميشيل فوكو؛ أي ذاك

الذي يلعب دوراً رئيسياً في إنتاج الخطاب لم يكتفِ في دواوينه الأخيرة بتأمل التاريخ، ولكنه

أيضاً تأمل تاريخ الخطاب الذي دشّنه هو بنفسه؟ وإذ أعاد النظر في شعر الحبّ المبكر الذي كتبه

لفلسطين، شخّص درويش دوره في صيغة «عاشق من فلسطين»، فاعتبره دوراً شعرياً انخرط فيه بنوع من نشوة الشباب.

وفي ديوانه «سرير الغريبة» نجد قصيدة بعنوان «قناع لمجنون ليلى»، يقول فيها:

وجدتُ قناعاً، فأعجبني أن

أكون آخَري. كنت دون

الثلاثين، أحسب أن حدود

الوجود هي الكلمات. وكنتُ

مريضاً بليلى كأي فتى شَعَّ

في دمه الملحُ. إنْ لم تكنْ هي

موجودة جسداً، فلها صورة الروح

في كلّ شيء. تقرّبني من

مدار الكواكب. تُبْعدني عن حياتي

على الأرض. لا هي موتٌ ولا

هي ليلى. «أنا هو أنتِ

فلا بدّ من عدمِ أزرق للعناق

النهائي». عالجني النهر حين

قذفت بنفسي إلى النهر منتحراً...

إنّ اغتراب الشاعر عن الحياة الفعلية، أو فقد العالم، كان يمكن أن يقتاده إلى العدمية الذاتية كما اقتاد شاعر المنفى اليهودي الكبير، بول تسيلان، الذي انتحر في العام 1970 بإلقاء نفسه في مياه نهر السين. لكن درويش، من جانبه، يؤوب إلى الحياة:

ثمَّ أرجعني رجل عابر، فسألتُ:

لماذا تعيد إليّ الهواء وتجعل

موتي أطول؟ قال: لتعرف

نفسك أفضل.. من أنت؟

قلتُ: أنا قيس ليلى، وأنتَ؟

فقال: أنا زوجها

ومشينا معاً في أزقة غرناطةٍ،

نتذكّر أيامنا في الخليج... بلا ألمٍ

نتذكر أيامنا في الخليج البعيد.

أنا قيس ليلى

غريب عن اسمي وعن زمني.

إنه الآن مستعدّ لأداء دور منفيّ آخر: المجنون، شاعر لويس أراغون العجوز في الطبعة

الماركسية السوريالية من الحكاية ذاتها، الذي يهيم على وجهه في شوارع غرناطة الجريحة، المقام الشعري للمنفى العربي، في نهاية القرن الخامس عشر، قبل سقوطها، مغنّياً غزلياته المكرّسة لـ «إلزا» المستقبل نظير أراغون الموازي لليلى درويش، التي ليست موجودة بعد، ولكنها ستولد حين تتيح الحرّية والعدل للحبّ أن يترعرع (أنظر أراغون: «المجنون»).

ويتمّ في القصيدة تعليق الزمن، وكذلك خطوط التماس السياسية. والمنافس السابق للمتكلم،

أو «آخَره»، أصبح نفسه الثانية، وهما يستدعيان معاً عديد المنافي: ليس المنفى الفلسطيني القياسي المألوف فحسب، ونفي العرب من الأندلس في العام 1492 والذي كان أيضاً نفياً يهودياً محتوماً بل كذلك نفي بدر شاكر السيّاب خارج العراق، والذي جعله يصيح على شواطئ الخليج، مستذكراً وطنه.

وإذ يظلّ في إهاب قيس ليلى، فإنّ الصوت المتكلم في القصيدة لم يعد يقتفي أثر المجنون العربي

القديم وحده؛ بل يتابع أيضاً شعراء المنفى المحدثين، غرباً وشرقاً على حدّ سواء:

تسيلان، أراغون، والسيّاب. وإنّ منفاه، كما تشي به إشاراته إلى هؤلاء الشعراء، لم يعد مرتبطاً بالإقصاء من الأرض، بل هو تغريب وجودي، حتى أنّ شخصية الشاعر بالمعنى التقليدي توضع محلّ مساءلة. والسطور الأخيرة من القصيدة فريدة في تعبيرها عن زهد كلّي في الإدراك الحديث للنفس بوصفها الذات، وفي انتفاء أي فهم جوهراني أو أحادي للهوية، والاستعاضة عن هذا بالإعراب عن وعي ذاتي لم يعد طامحاً في مكانة الشاعر، بل بالشعر وحده:

أنا

كائن لم يكن. وأنا فكرة للقصيدة

ليس لها بلد أو جسدْ

وليس لها والدٌ أو ولدْ.

أنا قيس ليلى، أنا

وأنا... لا أحدْ

لقد اكتملت دائرة منافي الشاعر: درويش، في بدء تجربته الشعرية، أعطى الفلسطينيين قصة تكوين خاصة بهم، تسرد نفيهم. فيما بعد، حين احتفى بالفدائي وبالشهيد، خلق دراما الخروج الفلسطيني، وجسّد «العودة» من المنفى. ومنذ الثمانينيات انكبّ على استكشاف المنفى الوجودي، فأصبح «الآخر» أو «الغريب» جزءاً من نفسه.

وفي ديوانه «سرير الغربية»؛ إذ يحيل العنوان إلى الغربة، تندمج سلسلة تجارب في المنفى المتعدد والمتغاير. وعلى غرار المتصوّف الإسلامي الذي يعتبر أنّ كامل الوجود على الأرض هو «منفى للروح»، أو «غربة»، يبصر محمود درويش عالمه في صورة الوطن المنفى، «بلد من كلام»

العدد 3249 - السبت 30 يوليو 2011م الموافق 28 شعبان 1432هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً