العدد 3258 - الإثنين 08 أغسطس 2011م الموافق 08 رمضان 1432هـ

أنسنة الكائنات في«فرق التوقيت» للريماوي

موسى أبورياش comments [at] alwasatnews.com

.

تتوثق الصلة بالكائنات الأخرى غالباً عندما تتراجع العلاقات الاجتماعية وتتآكل. فالصلة بالكائنات غير الإنسانية تتوطد كتعويض عن وهن الصلة بالبشر، وهي تعبير عن الروح الكونية والانسجام مع الكائنات لتحقيق التوازن مقابل الانفصال والعزلة الشعورية عن الناس.

والقاص/الراوي الذي يتآلف مع الكائنات الأخرى، ويجد فيها سلوته وعزاءه، يسبغ حالة من الأنسنة والروح على تلك الكائنات، بحيث يشعر القارئ أنها كائنات عاقلة لها مشاعرها وأحاسيسها وكيانها المستقل، بل إنَّ بعضها يتفوق على الإنسان.

وتظهر الأنسنة بوضوح لافت في بعض قصص مجموعة «فرق التوقيت» للقاص محمود الريماوي، التي تتكون من خمس عشرة قصة. صدرت عن مديرية الثقافة في أمانة عمان الكبرى، في يوليو/تموز 2011 في 113 صفحة، وقد وزعت مجاناً، كتكريم للريماوي في ملتقى عمّان الثالث للقصة الذي عقد في الفترة ما بين 23 و 25 يوليو 2011.

في قصة «سوء تفاهم» ينفخ الكاتب في النباتات روحاً تسري، فيكون لها رأي وشعور بل وتتمرد، «ثمة سوء فهم مكين بين الكائنات، ينتظر حكيماً لإصلاحه. مثلاً: بين رجل تعدى الخمسين وبين نباتات يهوى زراعتها والحدب عليها ... تخذله هذه وتأبى عليه النمو، مرة تلو مرة، بتصميم مسبق وبعناد كالبغال».(18)

وهي «تخذله رغم مصلحتها في أن تستجيب للزارع الحريص.

تخذله النباتات وتذوي، ربما غير آسفة على ما حل بها.

لا تتردد أن تموت، فداء لبلوغ غايتها في خذلانه».(18)

ومما يزيد من سخطه أن النباتات الضعيفة التي تزرعها زوجته وهي منشغلة الذهن وكيفما اتفق، تتفتح وتزهر وتزهو.

فالنباتات تتعامل معه بتحد وندية، بينما تأنس لزوجته وتستجيب لها.

يراقب الصبي في قصة «أضحى» عملية ذبح الجاموسة: «حرص على الجلوس في أبعد موقع ممكن. جلس مقرفصاً يملأه الفضول والحذر، ثم أخذ يستغرب كيف أن الآخرين لا يتألمون وهم يراقبون عملية الذبح. يتألم ويخاف ويضع راحة يده على رقبته ويكز على أسنانه»(27)، فالأطفال عادة أكثر قرباً من الحيوانات ويشعرون معها بالألفة والتعاطف، بل ويسبغون عليها قدراً من المحبة، ولذا لا عجب أن استغرب الصبي انعدام الشعور بالألم من الكبار وهم يشاهدون عملية ذبح الجاموسة، فهو يشعر بالألم ويشاركها مشاعرها، لأنه يعتقد - وهذا من حقه - أن من حق هذه الكائنات أن تعيش مثلنا تماماً، وليس من حقنا أن نصادر حقها في الحياة لنفرح ونمرح!

وفي قصة «الفراشة تبطش» يراقب الرجل الفراشة وهي تقوم بحركاتها الاستعراضية ثم تختفي لتظهر من جديد «تغيب عن النظر لوقت أطول من المتوقع، حتى يخال الرجل أنها انتبذت مكاناً قصياً تنال فيه قسطاً من الراحة أو النوم».(35). فالفراشة هنا كائن عاقل لها خططها وعالمها، بل إن الريماوي يمنح الفراشة قوة كبيرة «لمبة النيون صمدت أيضاً أمام الضغط الشديد لخفق الأجنحة، وبقيت سليمة تنشر ضوءها الأبيض بتفان وإتقان، كأن لا فراشة تدور حولها بجنون.»(36)، فالفراشة هذا الكائن الرقيق الجميل التي تكاد تذوب في اليد لو تم الإمساك بها، تتحول إلى كائن جبار تضغط على النيون بخفق أجنحتها.

ويصف السارد القطة في قصة «ارتباط عاطفي»: «ألمحها خافضة رأسها خفضاً خفيفاً، تعبر الرصيف المتاخم عائدة من مكان ما إلى مكان مجهول.

لا تلتفت نحو الشرفة؛ إذ تواصل مشيها المتثاقل بجرمها النحيل إلى الأمام غير عابئة بما حولها، وهي مشية من يستغرق في الحديث إلى نفسه».(49)، فالقارئ يظن للوهلة الأولى أن الراوي يقصد امرأة، ولن يدرك أنها قطة إلا بعد أن يقترب من نهاية القصة.

وفي هذه القصة يهجر الكهل المجتمع بما فيه، ويننفرد بكتبه يقرأها فتؤنس وحشته، ولا يلفت انتباهه إلا قطة تمر في وقت محدد بعد منتصف الليل، ثم يراها تنام تحت شجرة مشمس بعد كل عصر. فالكهل لا يرى أحداً أو لا يريد أن يرى أحداً أو أن يعير انتباهه لأحد، في عزلة شعورية وجسدية عن المجتمع الجاف الذي تخلى عن أهم صفاته وخصائصه وهي الروابط والتواصل الاجتماعي، واستبدل الكهل المجتمع كله بقطة تسترعي اهتمامه وتستحوذ على عاطفته.

ويسبغ الكاتب على الخنفسة في قصة «خنفسة النهار» صفات إنسانية، يقصر عنها كثير من الناس، فبعد نجاة الخنفسة من موت محقق تحت عجلات سيارة «رأيتها تدب مجدداً وبدأب إلى الأمام، لا تلتفت للماضي القريب ولا لصاحب الحذاء الأسود الثقيل: الفضولي الغريب بجوارها، وكانت المسافة نحو بلوغ الضفة الأخرى قصيرة ولم تستحق وقفة منها، فمضت في طريقها لا تلوي على شيء، مضت... وداعاً أيتها الغريبة».(85)، ولعله يقصد إذا كانت الخنفسة تملك كل هذه الفضائل وأهمها أن الكارثة لم توهن عزيمتها ولم تكبحها عن مواصلة سيرها والوصول إلى الضفة الأخرى، فما يمنعنا نحن أن نحقق أهدافنا، ونواصل السير؛ إلا إن كانت تلك الخنفسة أرجل منا!

وبعد، فإنَّ مجموعة «فرق التوقيت» بما تؤنسن من كائنات لتشير إلى تحول خطير وسلبي في العلاقات الإنسانية الاجتماعية، التي تميل تدريجياً نحو المادية ولغة المصالح والأنانية والجشع. والإنسان النظيف المستقيم، الذي يتسم بالشفافية والحساسية، لا يمكن أن يتكيف مع هكذا مجتمع، ولا يمكن أن يصم أذنية ويغلق عينيه عما يسمع ويشاهد، وهنا ينسحب شعورياً عن ارتباطاته الاجتماعية، مستبدلاً إياها بعلاقة روحية ووجودية مع الكائنات الأخرى التي لا تعرف الزيف والخداع والتزلف ولغة المنافع والمصالح، بل وتتميز بالوفاء، والبعد عن جرح شعور الآخرين، وحفظ الجميل

إقرأ أيضا لـ "موسى أبورياش"

العدد 3258 - الإثنين 08 أغسطس 2011م الموافق 08 رمضان 1432هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً