العدد 1379 - الخميس 15 يونيو 2006م الموافق 18 جمادى الأولى 1427هـ

محاسبة المسئول الفاسد لا تعني محاسبة الطائفة كلها

السيد محمد حسين فضل الله comments [at] alwasatnews.com

ثمة مفارقة غريبة لازمت الإنسان على امتداد تاريخه، وهي هذا الافتراق والتباعد بين قوله وفعله، بين خطابه وسلوكه. فالإنسان بطبيعته يمتدح الخير والعدل والإنصاف، ولكن المسألة تختلف عند التطبيق، فإذا كان العدل في غير مصلحته فإنه سيعدل عنه إلى موقع آخر، وأشار الإمام علي (ع) إلى هذه القضية بقوله: «فالحق أوسع الأشياء في التواصف وأضيقها في التناصف».

وتمتد هذه المفارقة إلى كل المجالات في حياة الإنسان سواء في المجال التجاري والاقتصادي أو الاجتماعي أو السياسي وما إلى ذلك. وقد ندد القران الكريم بهذه الذهنية والممارسة المزدوجة، معتبراً أن الإيمان يقتضي أن يكون سلوك الإنسان منسجماً مع قوله وفعله، فقال تعالى: «يا أيها الذين آمنوا لِمَ تقولون ما لا تفعلون كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون».

وإذا كان الانسجام بين القول والعمل هو صفة مطلوبة من مطلق الناس فلابد أن تكون مطلوبة أكثر من القادة والرموز وكل من له موقع متقدم في المسئولية، بحيث يكون في موقع القدوة والمثل الأعلى لجماعة من الناس، أو يكون لسلوكه تأثير في الآخرين بشكل أو بآخر. فالأب عندما يقع في الخطأ ويختلف سلوكه عن قوله فإنه بذلك لا يكون قد ارتكب خطأً في حق نفسه فحسب، بل يكون قد علم أبناءه على هذا السلوك الخاطئ وبذلك يكون قدوة سيئة لأولاده وأبنائه.

وكذلك بالنسبة إلى الواعظين وعلماء الدين، فإن كلامهم إنما يكون مؤثراً في المجتمع إذا لم يتناقض مع سيرتهم العملية، ومن هنا ورد في الحديث عن الإمام علي (ع) أنه قال: «من نصب نفسه للناس إماماً فليبدأ بتعليم نفسه قبل تعليم غيره، وليكن تأديبه بسيرته قبل تأديبه بلسانه، ومعلم نفسه ومؤدبها أحق بالإجلال من معلم الناس ومؤدبهم».

كما أن هذا الأمر ينطبق في شكل حاسم على الذين يتحركون في المجال السياسي ويمثلون القادة للجماعات أو الدول أو الأحزاب، إذ إن مسئولياتهم تكبر وتتضاعف في مسألة الالتزام بما يصدر عنهم من مواقف، لأن رجل الدولة الذي يتحلل من مسئولياته والتزاماته أمام الناس يكون قد ارتكب جريمة مضاعفة، فهو أعطى الصورة السلبية عن نفسه كشخص غير مؤهل للقيام بأعباء المسئولية، كما أنه يرتكب خطيئة في حق الأمة وخيانة في حق المسئولية المناطة به. ومع الأسف، فإن الأمر الذي يطبع السياسة العامة في عالمنا العربي والإسلامي هو أنها لا تتحرك من موقع المبادئ والضوابط، بقدر ما تنطلق من موقع المزاجية والشخصانية، ولذلك ترى المسئول أو الزعيم يقول الشيء ونقيضه ويفعل الشيء ونقيضه، ومع ذلك نرى الأمة تصفق له في الحالين، ما يعكس تردي مستوى الوعي فيها، وتدني الحس النقدي لديها.

إن المطلوب دائماً أن تراقب مدى التطابق بين وعود المسئول التي يطلقها في مناسبة أو أخرى وبين مدى التزامه وتطبيقه لهذه الوعود لتحاسبه عليها في مواسم الانتخاب التي يحتاج فيها إلى أصوات الجماهير وفي غيرها من المواسم. لكن المشكلة أن المسئولين في واقعنا عموماً يعتمدون على ضعف الذاكرة لدى الجماهير من جهة وعلى حاجة الناس إليهم من جهة أخرى، لأن مشكلة نظامنا السياسي أنه ربط الكثير من الوظائف بالحصص الطائفية التي توزع على هذا الزعيم أو ذاك، ولم يربطها بالمؤسسات التي تعتمد الكفاءة والأهلية.

إن ثمة مأزقاً ومشكلة لاتزال تستفحل في بلداننا العربية والإسلامية، وخصوصاً في لبنان، وهي مشكلة الطائفية التي صادرت الدولة ومؤسساتها وعطلت كل آليات المحاسبة لهذا المسئول أو ذاك، لأن محاسبة هذا المسئول ستعني بشكل وبآخر محاسبة الطائفة برمتها، وأن إدانته تعني إدانة الطائفة نفسها. ولذلك أصبحت كل طائفة تدافع عن الفاسدين فيها وتحميهم بعباءتها الطائفية المقيتة. وبذلك تعطل الإصلاح وكل مشروعات التغيير على صخرة الذهنية الطائفية التي أصبح لها ممثلوها بين السياسيين الذين يحرصون على الدفاع عنها أكثر مما يدافع عنها الذين ينظر الناس إليهم كممثلين حصريين للطوائف في الجانب الرسمي على الأقل.

إننا ندعو إلى التجرد من الحس الطائفي في معالجة القضايا الوطنية، لأن هذا الحس بكل عصبياته وانفعالاته سيجعل البلد عرضة للخراب والدمار، كما ندعو إلى التجرد من هذا الحس في مسألة النقد ومحاسبة هذا المسئول أو ذاك، فإن إدانة مسئول من طائفة معينة ينبغي ألا يفهم على أنه إدانة لهذه الطائفة، بل إن على أبناء الطائفة أن يبادروا إلى نقده ومحاسبته قبل غيرهم، لأن إساءته ترتد عليهم بالدرجة الأولى وإن كانت تصيب الوطن كله في نهاية المطاف.

إن المطلوب أن نتحرك في معالجة قضايا الوطن والأمة، ليس من موقع النكايات السياسية والمماحكات العصبية، بل من موقع الحس الوطني والمسئولية التاريخية التي ينبغي أن تتجرد عن كل الصغائر والهوامش. إننا نشعر بأن مشكلة لبنان الداخلية تنطلق من أن النادي السياسي اللبناني في الكثير من رموزه وقادته يتحرك من دون قاعدة سياسية يمكن أن يحاسبه الناس عليها، ولذلك فهو يقول الشيء وضده ويفعل الشيء وعكسه، من دون أن يجد من يقف بوجهه ليقول له كلمة الحق، أو ليسأله عن البرنامج السياسي الذي سبق وأعلن الالتزام به، إذا كان ثمة برامج ذات أهمية فيما هي المسألة في الانتخابات أو غيرها.

ولذلك، فإننا ندعو إلى لبنان جديد على أساس أن ينطلق الشعب كله في حركة وعي لتختار الأجيال الشابة قياداتها من نفسها ولتصنع رموزها من حركتها، وعلى أساس ضوابط الصدق والكفاءة والإخلاص، لأننا نزعم أننا بحاجة إلى التغيير على مستوى البرامج، وكذلك على مستوى الأشخاص، وفي المواقع القيادية هنا وهناك

إقرأ أيضا لـ "السيد محمد حسين فضل الله"

العدد 1379 - الخميس 15 يونيو 2006م الموافق 18 جمادى الأولى 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً