العدد 3272 - الإثنين 22 أغسطس 2011م الموافق 22 رمضان 1432هـ

الوحدة الوطنية... والاستقرار الموهوم(3)

محمود القصاب comments [at] alwasatnews.com

.

في الجزء الأول من هذا المقال أسهبنا في تحديد مفاهيم الوحدة الوطنية وأوردنا بعض التعريفات لعدد من علماء الفكر، من أجل الوقوف على الجوانب السياسية والأخلاقية الكامنة وراء رفع مثل هذا الشعار من قبل جميع الأطراف، وفي ظل أجواء مضطربة سياسيّاً واجتماعيّاً، ذلك لأن من الخيارات الحيوية التي نستطيع من خلالها تجاوز الحالة الراهنة، ومواجهة كل التحديات الداخلية والخارجية، خيار تأكيد وتعميق الوحدة الوطنية ليس شعاراً أو حلماً رومانسيّاً بل عملاً حقيقيّاً وإيماناً صادقاً.

والخطوة الأولى المطلوبة في هذا السياق؛ هي التخلي عن لغة الشعارات الفضفاضة التي ليس لها معنى أو مضمون، في التعامل مع هذه القضية الحيوية، كذلك يجب تجاوز أو وضع حد لكل الخطابات والدعوات التي تقوم على الإلغاء أو الإقصاء لهذا الطرف أو ذاك، كما يجب وقف كل محاولات تجاهل التعددية والاختلافات الطبيعية بين مكونات المجتمع، أو النظر إليها باعتبارها عوائق للوحدة، أو مضادات للتوافق الداخلي.

وأخيراً يجب مغادرة النظرة السطحية والساذجة للمجتمع البحريني التي تتحدث عن تناغمه وانسجامه كعائلة واحدة والاعتراف بحقيقة الصراعات والتباينات السياسية الموجودة، لأن المهم حصر هذه الخلافات في إطار وحدود السياسة، وتنظيمها وحلها بصورة ديمقراطية وإنسانية.

معنى هذا أننا بحاجة اليوم إلى تطوير مفهوم الوحدة الوطنية ليستوعب كل حالات الاختلاف في وجهات النظر، وأن يكون هذا المفهوم منفتحاً على كل الآراء وصولاً إلى حالة من التوافق الحقيقي وليس الشكلي، المنطلق من رغبه صادقة في معالجة الواقع، والمعبر عن احترام وجود كل التعبيرات السياسية والاجتماعية لكل مكونات المجتمع. فالوحدة الحقيقية والصلبة لا يمكن أن تعيش وتتواصل إلا في ظل التنوع والاختلاف المشروع، والتي تبدأ من الاعتراف بالآخر وجوداً وفكراً.

بهذا المعنى، وأمام الظروف الدقيقة والحساسة، مطلوب منا جميعاً تجاوز كل ما يحول دون الوصول إلى هذه الوحدة، وأن نسعى إلى خلق المبادرات الوطنية في هذا الاتجاه، وخلق الأجواء المناسبة وبالشكل الذي يساعدنا على استعادة وحدتنا الغائبة أو المغيبة قسراً، بفعل بعض السياسات المتشنجة والخطابات الموتورة.

مختصر القول إنه إذا أردنا مقاربة تلك الأفكار والتصورات بصورة جادة فاعلة، نستطيع التأكيد على أن الوحدة الوطنية طالما أنها تقوم على المشتركات الاجتماعية والثقافية بين أبناء الوطن الواحد؛ فـالواجب يفرض علينا حكومةً وقوى مجتمع، إسناد وتقوية هذه المشتركات لا إضعافها أو تدميرها. وهذا ممكن ومتاح من خلال الاتفاق على مشروع وطني يتم إنجازه برضا وتوافق الجميع. مشروع يؤسس لشراكة حقيقية وفعلية على أساس المواطنة الكاملة، وصيانة حقوق الإنسان، واعتماد مبدأ تكافؤ الفرص بين المواطنين في المجالات السياسية والاجتماعية والمعاشية كافة، ويكون استكمالاً وتطويراً للمشروع الإصلاحي الذي أطلقه جلالة الملك قبل عشر سنوات.

في مقابل هذا المشروع الوطني (الحلم والأمل) هناك للأسف مشروع مضاد يتحرك على الأرض، يقوم على الإقصاء والتخوين و»اجتثاث» الآخر سياسيّاً واجتماعيّاً واقتصاديّاً عبر قطع رزقه وتدمير حياته وحياة أسرته، في محاولة لخلق حقائق سياسية واجتماعية وثقافية جديدة لا علاقة لها بواقع البلد، ولا بتاريخ وتعايش أبنائه. مشروع يقسم المواطنين بين «منتصر شريف» و»مهزوم خائن». بين مواطن رابح لكل شيء، وآخر خاسر لكل شيء. مشروع يحاسب «زيدًا باسم زائدةٍ» ويعاقب «القاعد بجريرة القائم»؟ مشروع يسعى إلى الهروب من مواجهة الأزمة الحقيقية إلى خلق بؤر الكراهية والفتن وزرع بذور التصادم والانقسام بين مكونات البلد. إنه باختصار مشروع يقوم على الاستقرار الموهوم المؤقت الذي يدفن الخلافات وأسباب الصراع تحت السطح ويؤجل انفجارها إلى حين، واستمراره بهذا الشكل المفزع يجعل الحديث عن الوحدة الوطنية أشبه بالخرافة.

إن قضية الوحدة الوطنية، كما في كل القضايا، لا شيء يأتي من لا شيء كما يقال، فالوحدة والشعور بالانتماء إلى الوطن يأتي دوماً نتيجة التزامات غاية في الأهمية والضرورة مثل الشعور بالمواطنة الكاملة المتساوية حقوقاً وواجبات، ولا شيء يصون الوحدة ويحمي مكاسبها مثل مفهوم المواطنة الكاملة.

في ظروف معينة قد يجبر المواطن على الطاعة والصمت وهو مغلوب بسطوة القوة والقهر، لكن في كل الأحوال؛ فإن الانتماء التام والولاء الكامل للمجتمع والدولة لا يمكن تحقيقه في غياب العدالة والمساواة. وليس هناك أي معنى للوحدة الوطنية التي تفرض بالقوة وتسوم الناس أصناف العذاب والهوان، وتعتمد الخيار الأمني خياراً وحيداً ونهائيّاً.

فالوطن ليس قطعة أرض، أو علماً يخفق، أو نشيداً وطنيّاً يغنى. إنه فوق هذا وقبل هذا أمنٌ من خوف وإطعامٌ من جوع، أما دفع الناس دفعاً للقبول بما يفرض عليهم ورفض اعتراضاتهم وشكواهم، فهو من قبيل رمي المواطن في البحر وهو مقيد، والطلب منه أن لا يبتل بالماء.

إن الشعور بالولاء للوطن مرتبط حتماً بمكانة المواطن وكرامته في وطنه، وبقدرة هذا الوطن على إنصافه ومكافأته عندما يعمل ويصيب، وعدم المبالغة أو الشطط في عقابه عندما يخطئ، فلا خير في وطن لا ينصف ولا يرحم مواطنيه.

من المهم أن يشعر المواطن أن الدولة في كل الظروف، ومهما حصل، تقف على مسافة واحدة من جميع المواطنين، أما الشعور بأي شكل من أشكال الحيف والظلم، فذلك سيقود حتماً إلى فرز واقع سياسي واجتماعي شديد القتامة والسوء، وسيلقي بالتأكيد بظلاله السلبية على الوحدة الوطنية. لذلك نؤكد على دور ومسئولية الدولة بالدرجة الأولى في تحقيق التعايش السلمي وبناء الوحدة الوطنية، من خلال خياراتها وسياساتها التي تلعب دوراً أساسيّاً في توفير «المناخ» الوفاقي المتسامح بين جميع مكونات المجتمع، أما العنف والإقصاء، وقطع الأرزاق، والعقاب الجماعي، فذلك يمثل أقصر الطرق لتفكيك المجتمع وشرذمته، وتدمير وحدته الوطنية.

وهناك حقيقة أساسية يجب عدم إغفالها أو التغاضي عنها، وهي أن أي نظام سياسي لا يمكن أن يخلق وحده شروط ومتطلبات الوحدة الوطنية، إنما هو بحاجة دائمة إلى جهد الشعب بكل أطيافه باعتباره المكون الأساسي للدولة، فالشعب برموزه السياسية والاجتماعية والدينية والثقافية، وبكل فعالياته السياسية، يمثل ركناً أساسيّاً في تعزيز التماسك الداخلي وتعميق خيار التوافق الأهلي. وهنا يأتي دور الدولة في توفير مثل هذه الأجواء التي تجعل الشعب راغباً ومؤمناً بهذا الخيار.

وهذه الحقيقة تفرض على كل أطياف المجتمع التزامات غاية في الأهمية، وفي المقدمة منها قبول هذه الأطياف بعضها بعضاً، نفسيّاً وعقليّاً وسلوكاً، فالقبول يعني بالضرورة الاعتراف بالآخر وجوداً وفكراً ومشاركة، واحترام ما يمثله من توجه، وما يميزه من مواقف. من هنا تبرز أهمية العلاقات بين مختلف مكونات المجتمع، على قاعدة التعايش والتسامح، والتعددية، وصيانة حقوق الجميع، والشراكة الوطنية.

فالوحدة الوطنية تقوى وتترسخ بهذه القيم فقط باعتبارها بوابة توفير الظروف الملائمة، سياسيّاً ونفسيّاً، وخلق بيئة اجتماعية ووطنية قادرة على تجاوز كل إكراهات الماضي، ومرارات الحاضر، وقادرة أيضاً على طي كل محطات التوتر والهواجس والشكوك القديمة منها والحديثة.

وبعد كل ذلك؛ يأتي الحوار الحقيقي بصفحته التالية من تحت عباءة هذه الوحدة وتحت مظلتها وكمقوم أساسي من مقوماتها. بذلك نكون قد قطعنا أولى الخطوات المطلوبة من أجل إزاحة الكابوس الجاثم على صدورنا جميعاً، والبدء في صياغة مستقبل أفضل للبحرين العزيزة التي نعيش على أرضها ونستظل بسمائها، وعسى الكرب الذي أمسينا فيه يكون وراءه فرج قريب

إقرأ أيضا لـ "محمود القصاب"

العدد 3272 - الإثنين 22 أغسطس 2011م الموافق 22 رمضان 1432هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 12 | 9:28 ص

      قراءة صحيحة لواقع..

      قراءة صحيحة لواقع مرير يحاول الكاتب المبدع صياغة الية مشتركة لاحتواء بركان طائفي مهيئه لحرق مكونات المجتمع البحريني-ولكن لا حياة لمن تنادي--اذا كان رب البيت بالطبل مولع فما شيمة أهل البيت--

    • زائر 11 | 9:18 ص

      الله اكبر

      زائر 7 اتقي الله الرزق بيد الله وليس بيد انسان وما ادراك يمكن تكون حياتهم احس مما نحن فية

    • زائر 10 | 7:52 ص

      نعم للأصلاح والمطالبة بالحقوق

      رددا على تعليق رقم 4 من قال لك أحنا بنترك ديرتنا نحن نطالب فقط بالمساواة والعدل وإذا كنت تحمد الله على الموجود الحين ترى أولادنا مابشوفون شي منه في المستقبل وذلك بسبب الفساد والسرقة .

    • زائر 9 | 7:42 ص

      لرقم 4

      ليش تتحدى؟ نحن لسنا هولة!!! نحن بحارنة يعني أهل البحرين الأصليين ما لينا بلد غيرها.

    • زائر 8 | 7:24 ص

      المواطنة الحقيقية (حقوق وواجبات)

      ولا يتأتى ذلك إلا عن طريق ما يأتي :
      1- دوائر عادلة
      2- دستور عقدي
      3- برلمان كامل الصلاحيات
      4- صوت لكل مواطن
      5- حكومة منتخبة عبر صناديق الإقتراع
      6- الشعب مصدر السلطات
      7- وقف التجنيس
      8- قانون محاربة التمييز

    • زائر 7 | 6:31 ص

      الحمد للة

      انا اتحدى واحد منكم يروح ويعيش في ايران او العراق

    • زائر 6 | 4:34 ص

      المواطنة

      الغنى في الغربة وطن و الفقر في الوطن غربة(الامام علي)....
      أكثر من نصف بلاد العرب(22 دولة)الهجرة هي حلم شبابها الأكبر..بسبب غياب المواطنة.
      السؤال هو كيف نقنع المستفيدون من غياب المواطنة بأنها أي المواطنة سوف لن تقلل من مغانمهم و لكنها ستزيد من مغانم و حقوق الاخرين؟

    • زائر 5 | 4:25 ص

      المصلي

      المواطنه بمفهومها الطبيعي هي الكرامة أي أن السلطة عليها ان تشعر المواطن بأن له حقوق وعليه واجبات وهذا لايتئتى الا بنسف سياسة التمييز والأقصاء وسن قوانين حازمة تجرم نهج الطائفية المقيته والتي في حقيقة الأمر ما آلت اليها اوضاع غالبية الشعب من غبن مما حدا بتفجر الأوضاع بين حينة واخرى وعلى السلطة أن تعي تماما بأن عليها الكثير الكثير من أصلاح الوضع ونتهاج سياسة حكيمة تخرج البلد من عنق الزجاجة

    • زائر 4 | 3:11 ص

      الوحدة لا تقوم على تسقيط طرف لطرف آخر

      الكرامة والحرية والقيم كل لا يتجزء فإما هي للكل أو عدم للكل لا يمكن أن تكون كرامة هذا الشخص تساوي كرامة 30 شخص آخرين
      هذه المقايسس لم تعد تنفع في زمن مفتوح مثل هذا الزمن لايمكنني القبول أن يكون صوتي يساوي 1/30
      من أصوات قوم آخرين وبعدها أطالب بالوحدة وبالوطنية
      الوطن للجميع وحقوق المواطنة للجميع وعلى الجميع بالتساوي نحن لا نطمح للمدينة الفاضلة ولكن
      الكيل بمثل المكاييل الحاصلة لدينا لايمكن لأي إنسان
      القبول بها وقد خلقنا الله متساوين في كل شيء

اقرأ ايضاً