العدد 1342 - الثلثاء 09 مايو 2006م الموافق 10 ربيع الثاني 1427هـ

الاغتيال السياسي بين السياسة والحقوق

هيثم مناع comments [at] alwasatnews.com

يلاحظ المؤرخون تحولاً مهماً في طبيعة الاغتيالات السياسية بين التاريخ والأزمنة الحديثة. ويكاد يكون ثمة إجماع على أن الاغتيالات كانت، قبل صعود الديمقراطية الشكلية الأوروبية، تتوجه بشكل أكبر إلى المستبدين والحكام والأعداء خارج فضاء السيطرة. أي خارج الأراضي التي يمكن للدولة استخدامها للمحاسبة والمعاقبة. في حين أنها أصبحت في الأزمنة الحديثة موضوع شراكة بين الظالم والمظلوم والحاكم ومعارضيه. ببساطة، يعزى أمر ذلك إلى اتساع فضاءات العمل العام خارج قيود السلطة الحاكمة واتساع نفوذها وامتلاكها الشرعية السياسية والقانونية التي تحول دون الاعتقال أو الملاحقة، ما يضطر السلطة السياسية الحاكمة والجماعات المنظمة، اقتصادية أو سياسية أو عقائدية، للجوء أكثر فأكثر إلى أساليب خارجة عن القانون. هذا الخروج عن القانون يخضع، مع توافر الوسائل الرخيصة للقتل، لما يمكن تسميته «دمقرطة» الموت. بتعبير آخر، دخول قانون نيوتن للفعل ورد الفعل بقوة في الوقائع المجتمعية، كون القدرة على المحاسبة كقضية الأمن، مسألة نسبية.

إذا كان القتل خارج القضاء يعتبر انتهاكا جسيما لحقوق الإنسان، يمكن القول إن الاغتيال السياسي يشكل واحدا من أهم تعبيراته على الصعيد العالمي. هذه الظاهرة عالمية الطابع للأسف، على رغم إدانتها من قبل الفلسفات والأديان الكبرى.

لم يتمكن المجتمعون في العام 1948 من جعل حق الحياة حقا غير قابل للتصرف، أي رفض حكم الإعدام صراحة، لكنهم أدانوا في المادتين الثالثة والخامسة من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لعام 1948 أي شكل من أشكال القتل أو المعاقبة بالقتل خارج القضاء. كما أكدت المادة الثالثة المشتركة في اتفاقات جنيف الأربعة، على حظر الاعتداء على الحياة والسلامة البدنية، وخصوصا القتل بجميع أشكاله والتشويه والمعاملة القاسية والتعذيب وإصدار الأحكام وتنفيذ العقوبات من دون إجراء محاكمة سابقة أمام محكمة مشكلة تشكيلاً قانونياً وتكفل جميع الضمانات القضائية اللازمة في نظر الشعوب المتمدنة. وقد جاء في اتفاق جنيف الرابع التعهد من الأطراف السامية باتخاذ إجراءات تشريعية ملزمة لفرض عقوبات جزائية فعالة على الأشخاص الذين يقترفون أو يأمرون باقتراف مخالفة جسيمة (المادة 146).

وتحدد المادة 147 المخالفات الجسيمة بما يلي: الاعتداء على حياة المدنيين وسلامتهم البدنية والقتل بجميع أشكاله والتشويه والمعاملة القاسية والمهينة والتعذيب. واعتبرت هذه المادة الأفعال التالية من المخالفات الجسيمة: القتل العمد، التعذيب، المعاملة اللاإنسانية، تعمد إحداث آلام شديدة أو أضرار خطيرة بالسلامة البدنية أو الصحة. هذه المخالفات الجسيمة تعتبر من جرائم الحرب حسب البروتوكول الإضافي الأول الملحق باتفاقات جنيف لعام 1977 والمتعلق بحماية ضحايا المنازعات المسلحة الدولية. كذلك الأمر في النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية للعام 1998.

كما جاء في المادتين الثالثة والخامسة من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لعام 1948، والمادتين السادسة والسابعة من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية للعام 1966، والمادة السادسة من اتفاقية حقوق الطفل للعام 1989، والمادة الأولى من الإعلان الدولي بشأن حماية النساء والأطفال في حالات الطوارئ والمنازعات المسلحة للعام 1974، واتفاق مناهضة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة للعام 1984، والمادة الثالثة من المدونة الخاصة لقواعد سلوك الموظفين المكلفين بإنفاذ القوانين 1979، عدم حرمان أحد من حياته بشكل تعسفي أو تعريضه للتعذيب أو المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو الحاطة بالكرامة.

عندما ننتقل من حقوق الإنسان إلى السياسة، يصبح الموضوع أكثر صعوبة وتعقيدا. فمفهوم الحق يرتبط بالانتهاك اليومي للكرامة الإنسانية وجملة المظالم التي تجعل منه قوة مجردة. نسبية العدل يعززها صنع الغالب للقانون وتحكمه بتعريف الجريمة والعقاب. غالبا وفق منطق الغنيمة أكثر منه منطق التجاوز لمسببات الصراع نفسها. الأمر الذي يبقي على جذور العنف في المجتمعات عوضا عن تجاوزها.

لا يوجد قاتل يقبل بفكرة براءة ضحيته. فالإنسان بطبيعته وتكوينه الثقافي، المبني على قيمة الحياة المستقاة من الفلسفات والديانات الكبرى، كائن يرفض بالسليقة قتل أبناء جنسه. وهو يحتاج لشحنات عدوانية عالية وتصور متماسك لتجريم الضحية. على رغم أن الموت هو الموت والاغتيال هو الاغتيال، فإن هوية القاتل تحدد طبيعة الجريمة وحجم الجرم وقبول رأي عام معين لها ورفض رأي عام آخر. بهذا المعنى يمكن مثلا قراءة الفارق بين اغتيال رحبعام زئيفي واسحق رابين في الدلالة والتعامل داخل الكيان الصهيوني. ففي حين تشكل العملية التي قام بها فلسطينيون سابقة في الصراع تجعل استهداف قيادي فلسطيني (أبو علي مصطفى) سببا أخلاقيا وسياسيا كافيا لاستهداف وزير إسرائيلي متطرف، يحمل اغتيال رابين فيروس قتل يهودي ليهودي بدوافع سياسية ودينية في بلد يربط المواطنة الأولى بالدين. هذا الهاجس الذي تسعى النخب الإسرائيلية لمواجهته بكل الوسائل منذ اغتيال أول يهودي من قبل يهود في فلسطين العام 1924 (جاكوب إسرائيل دوهان الشاعر المتدين المناهض للصهيونية).

هنا تكمن قوة وضعف أطروحة ألكسندر دومانت Alexander Demandt الذي يعتبر الشرعية في القتل ابنة الموقع الذي يحتله الشخص في الصراع. وإن كان هذا الموقع يجد فيما بعد التفسير السياسي أو الإيديولوجي المناسب لتصفية «خائن» أو «منافق» أو التخلص من عدو شرس، فإن البشر بطبيعتهم لم ينتظروا حكم التاريخ في كل عمليات الاغتيال التي نالت مرتكب جريمة جسيمة أو طاغية. وكثيرا ما هللت بعفوية للاغتيال السياسي في حالات كهذه، ولا غرابة في الأمر. فما هو مثلا عدد الأشخاص الذين سيبكون هتلر لو نجحت عملية اغتياله في 20 أغسطس/ آب 1944؟ على العكس من ذلك، وفي حين بكت الجموع شخصية اعتبارية أو ضحية نبيلة، هناك أشخاص أعاد إليهم الاغتيال السياسي تاجا معنويا فقدوه أثناء حياتهم.

خاض اللوبي الصهيوني في السنوات الأخيرة معركة جيو سياسية كبيرة اعتمدت على أساسين:

الأول، خلق قبول عام لفكرة القتل المستهدف للقيادات الفلسطينية التي لم تتخل عن فكرة المقاومة المسلحة؛

الثاني، التفريق بين ما تسميه «إسرائيل» حقها في الاغتيال السياسي ضمن «الصراع العسكري الذي لا يختلف عن حال الحرب»، وبين التفجيرات الفلسطينية التي تستهدف المدنيين.

وقد استنفرت لهذا الغرض عددا من قدماء المحاربين والخبراء العسكريين في أوروبا والولايات المتحدة. واعتمدوا، فيما اعتمدوا، على واقعة قامت بها القوات المسلحة الأميركية في أبريل/ نيسان 1943 عندما ضربت طائرة الأميرال إيسورو ياماموتو Isoru Yamamoto في عملية ذهب ضحيتها مع عدد من هيئة أركانه. ويمكن القول بنشوء تيار قوي في صفوف المحافظين الجدد واللوبي الموالي لـ «إسرائيل» لدعم فكرة الاغتيال السياسي مع كل ما تحمله من مخاطر.

إن كان موضوع الاغتيال السياسي قد أصبح بالفعل، (على رغم إجراءات مجلس الأمن الخاصة باغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري، والتي لا تدفع الازدواجية في المعايير والانتقائية الحالية في قمة المنظمة الدولية، باتجاه إمكان تحويلها لسابقة عامة في القانون الدولي) فكرة مقبولة في غمار الحرب على الإرهاب وعولمة حال الطوارئ، من يقبل الفكرة لنفسه لا يمكنه أن يحجبها عن غيره. ولو أخذنا الاحتلال الإسرائيلي مثلا، نجد ان من الصعب إقامة فصل بين التعبيرات المختلفة للعنف والعنف المضاد: ألم تحدث عملية اختطاف الأمين العام للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين أحمد سعدات في غزوة أريحا بتواطؤ بريطاني أميركي؟ ألم ترفض الدولة العبرية وقف إطلاق النار من قبل الفصائل الفلسطينية وتابعت عملياتها العسكرية واعتداءاتها اليومية على الفلسطينيين؟ هل احترمت الدولة المحتلة يوما اتفاق جنيف الرابع؟

كيف يمكننا التعامل الشكلي مع الحوادث من دون قراءة سببية لأسباب التحول من انتفاضة الحجارة إلى تفجير الذات في الآخر وتتبع التصعيد الكبير لاستعمال العنف من قبل قوات الاحتلال؟ وإذا تركنا جانبا أشكال العنف غير المباشر ذات الصلة بالحصار الاقتصادي والإنساني ومصادرة الأراضي والاعتداء على الزرع وبناء المستوطنات وبناء جدار الفصل العنصري، هناك العنف المباشر المتجسد في المعاملة اللاإنسانية والمهينة والتعذيب واستهداف حق الحياة للناشطين السياسيين الفلسطينيين.

إذا ما تتبعنا الاغتيال السياسي الإسرائيلي في السنوات الأخيرة، نجد بأنه لم يكن يوما حصرا على المقاتلين. فوفقا لتقرير مركز المعلومات والإعلام أعده خالد الحلبي، وصل عدد جرائم الاغتيال السياسي التي اقترفتها قوات الاحتلال الإسرائيلي بحق قادة سياسيين وناشطين فلسطينيين، منذ بدء الانتفاضة في 28 سبتمبر/ أيلول 2000 وحتى 30 أبريل 2004، إلى 177 جريمة في الضفة الغربية وقطاع غزة. أي بمعدل جريمة كل أسبوع، راح ضحيتها 374 مواطنا فلسطينيا، بينهم 239 من المستهدفين -منهم 5 أطفال. وقد سقط نتيجتها 135 مواطناً غير مستهدفين وجدوا مصادفة في مكان الجريمة، بينهم 45 طفلاً و14 امرأة و18 شيخاً. كما بلغ عدد المصابين 787 مواطناً، بينهم 41 مستهدفاً، إلى جانب 746 غير مستهدفين وجدوا مصادفة في مكان وقوع الجريمة وتراوحت إصاباتهم بين متوسطة وخطيرة.

في غياب كامل للمحاسبة، وتفاوت كبير في موازين القوى العسكرية، ومواجهة يومية مباشرة بين كيان متخم بالدعم والمساعدات وشعب محروم من الأوليات، تتحول منظومة القيم الحقوقية إلى صرخة في العراء في عالم الغاب. كما ويصبح من العدمية بمكان الاستشهاد باليابان أو أميركا اللاتينية بل وحتى بنظام الأبارتايد في جنوب إفريقيا. من يملك الحق في مطالبة الضحية في الظروف اللاإنسانية التي فرضها الاحتلال باحترام كرامة الجلاد في لحظة يضع رأسها تحت البسطار العسكري ولقمتها ومستقبلها رهن سياسة حكومته المسئولة عن التحطيم المنهجي لمقومات البقاء الفلسطيني؟

في وضع كهذا هل يمكن قراءة العنف الفلسطيني خارج دائرة الإبادة البطيئة التي يتعرض لها بدعوى ضمان أمن دولة «إسرائيل» ورعاياها؟

إقرأ أيضا لـ "هيثم مناع"

العدد 1342 - الثلثاء 09 مايو 2006م الموافق 10 ربيع الثاني 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً