العدد 1355 - الإثنين 22 مايو 2006م الموافق 23 ربيع الثاني 1427هـ

الميراث السياسي لخاتمي

محمد غانم الرميحي comments [at] alwasatnews.com

في ضوء الأجواء السياسية المعتمة عن الحركة الإيرانية الدولية في البحث عن حلول للطموح الإيراني بالحصول على التقنية النووية، لابد من الاطلاع على مكنونات الشارع السياسي الإيراني، ولا يمكن فعل ذلك قبل الاحتكاك المباشر بما يدور هناك.

وفي رحلة عاجلة نظمها عبد العزيز البابطين من أجل الاطلاع على الحركة الثقافية تسنى لي والزملاء من الصحافة الكويتية أن نطلع على الهموم التي تنتاب الشارع الإيراني في هذا الوقت، وهي هموم تتعدى الضنك المعيشي لتمتد إلى الحلم بآفاق متطورة في المستقبل.

كانت مجموعة اللقاءات التي تمت تتراوح بين لقاء متميز مع رئيس الجمهورية السابق حجة الإسلام محمد خاتمي وطاقم معاونيه السابقين، إلى مدير جامعة طهران عباس علي زنجاني، ومن ثم نائب رئيس الجمهورية ومدير المكتبة الوطنية علي أكبر أشعري وعدد من المؤسسات الثقافية الأخرى. ما لفت نظري إذا كانت الأرقام التي قدمت في اللقاءات صحيحة، أن إيران اليوم مقدمة على «ثورة في البحث العلمي» لا نظير لها إلا في الصين والهند، ويبدو أن العملاقين الآسيويين قد زودا الروح الإيرانية بالكثير من التحدي حتى تقوم المؤسسات الإيرانية بضخ مبالغ ضخمة في مجرى البحث العلمي في أشكاله المختلفة من العلوم البحتة والتطبيقية وحتى العلوم الاجتماعية، من أجل تكوين كادر بشري مدرب. ومظاهر الاهتمام واسعة، فالمكتبة الوطنية في طهران، وهي مكتبة حديثة تم افتتاحها في العام الماضي تحوي عدة ملايين من الكتب والمخطوطات، وعلى رغم الازدحام الذي شاهدناه وقت الزيارة للطلاب والطالبات من الدارسين في المستوى العلمي الرفيع (فوق الجامعي) إلا أن الأعداد كانت كبيرة نسبيا، أكثر ما تشاهده في أية مؤسسة مثل نوعها على الأقل في دول عربية لها الثقل البشري لإيران نفسه.

أما البحث العلمي في الجامعة فقد توافرت له مصادر تمويل على رغم الضنك الاقتصادي كما عرفنا، وهو بالتالي أنتج من البحوث العلمية المقبولة للنشر في الدوريات المحكمة ما يقارب، كما قيل لنا، الخمسة آلاف بحث. هذا الرقم لفت نظري بشدة حتى لا أقول انه أذهلني بالمقارنة لما تنتجه الدول في العالم الثالث، بما فيه عالمنا العربي الذي تتواضع أرقام البحث العلمي فيه إلى درجة كبيرة دون ذلك. هذه الأرقام جعلتني أعيد السؤال على مدير الجامعة المخضرم حجة الإسلام المتخصص في القانون عباس زنجاني، وهل نشرت بالانجليزية (اللغة المقبولة علميا) فأكد ذلك!

بيننا في الخليج وبين الإيرانيين (كر وفر) سياسي، لعبت فيه السياسة كثيراً في زرع التعصب العرقي أو التعصب المذهبي، ونتج عن تلك السياسة وضع أسافين التفريق والغواية، ولن تقوم الثقافة برأب بعض الصدع ذاك، ولكنها قد تحاول. وفي يقيني أن أول ما يمكن أن تعتني الثقافة به هو جسر اللغة. فاللغة هي الواصل الحقيقي بين الناس، ومعرفتها من قبل النخبة الإيرانية أو العربية يمكن أن تمد الجسور الحقيقية إلى تفهم أفضل بين الجانبين، ولعل الحكمة البالغة التي نقلت عن النبي (ص) قوله إن العربية هي اللسان، فهي ليست عرقا ولكنها واصلة.

النخبة الإيرانية القائمة على الحكم في إيران اليوم تعرف بالضرورة الكثير من اللغة العربية، كونها مؤطرة بالدراسات الإسلامية، ولكن البعض قد يفاجأ بأن الكثير من هؤلاء النخب تعرف العربية نظريا، أما محاكاة وكلاما وممارسة، فإن هذه الأداة معطلة أو شبه معطلة. ليس من المناسب الخوض في أسباب ذلك التعطيل، إلا أن الحقيقة هي الشاخصة أمامنا، إن اللغة العربية في إيران أريد لها أن تندثر. أما النخب العربية فإنها قل ما تجيد اللغة الفارسية (الإيرانية) وبعضنا يعتقد أن بعض أهل الخليج الذين يلمون باللغة الفارسية هم يتكلمون الفارسية حقيقة، إلا ان الواقع أنهم يتكلمون فارسية الأطراف لا اللغة الفارسية النخبوية ذات البعد الثقافي والحضاري. ففقر العرب ومن يعيش معهم بهذه اللغة الجارة هو أحد معطلات التواصل، عدا الفهم المغلوط من الجانبين عن التوجهات الحضارية لكليهما.

ممارسة السياسة في إيران لا تختلف عن ممارسة السياسة في أي بلد آخر، فيها الكثير من (التحالفات وتطويع الإرادات والضرب تحت الحزام) وفيها الكثير من النكايات، وقد علق السيد خاتمي على هذا الموضوع بأنه خرج من ظلم السياسة لينضم إلى نور الثقافة، وهي إشارة بالغة المعنى للصعوبات التي تواجهها النخب الحاكمة في إيران اليوم، والخيارات المتاحة لها للإبحار بسفينة إيران إلى بر الأمان.

لا جدال انك تشعر بتوجهين مختلفين في الشارع الإيراني، الأول هو قبول للمواجهة في موضوع التحدي العلمي النووي والإصرار على الحصول على التقنية النووية، وفي هذا تجد قليلا من النخب تبتعد عن الخط الرسمي، أما في السياسات الأخرى المعيشية والاقتصادية فتجد الكثير من النقد الموجه للنظام. حتى في العلاقة بأميركا وهي الشيطان الأكبر (السابق) تجد اليوم في إيران من يحبذ علاقة متوازنة معها، بل ويستعجلها.

يسر إليك البعض أن إيران قد تفاجئ العالم بالحصول على قوة نووية (عسكرية) قريبا، وهي المفاجأة التي يبدو أن هاجس الشارع الإيراني ينتظرها أو يتخيلها، لأن خطوط التماس تقترب مع المجتمع الدولي باتجاه الصراع، والناس تحبس أنفاسها، وربما هذا التخيل يجعل الخيال الشعبي يركن إلى فكرة مثل هذه، أي المفاجأة لوضع العالم (تحت الأمر الواقع)!

الملف الإيراني ليس سهلا أو يسيرا، ولكنه ملف معبأ بالكثير من الاحتمالات. وربما الجهل بإيران الحديثة هو الذي يضع غمامة معتمة على عيون الكثيرين، فيتخذون مواقف المؤيد أو المعارض لأسباب بعيدة عن معطيات الواقع. وسيظل مثل هذا الفهم الضبابي للجارة الكبيرة ما ظل هذا التداخل غير الصحي بين الثقافة والاقتصاد من جهة، وفيها مصالح مرسلة كثيرة، وبين السياسة الآنية التي لا تنظر أبعد من أنفها. لقد جاءت إيران من منطقة بعيدة خيم عليها في جل القرن العشرين خطاب قومي فارسي ملكي، والآن أصبح هذا الخطاب الإيراني المشاع أمميا بنوع ما، وإسلامي غير فارسي، وهي خطوات واسعة خطتها الثقافة السياسية الإيرانية المعاصرة تجاه مجالها الحيوي، قصر البعض عن فهمها والتوافق معها، واستفاد منها البعض لإغراضه.

إلا أن ملف العلاقات العربية الإيرانية يحتاج أيضا إلى تخطي المجاملة، والعرب والإيرانيون متشابهون في الغوص في «المجاملات»، للانتقال إلى تفهم مشترك للمخاطر من جهة، والآمال من جهة أخرى، على قاعدة المصالح المشتركة. وفي يقيني أن الثقافة يمكن أن تلعب دوراً أبرز في هذا المجال، من كل خطب السياسة.

مفكر كويتي

إقرأ أيضا لـ "محمد غانم الرميحي"

العدد 1355 - الإثنين 22 مايو 2006م الموافق 23 ربيع الثاني 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً