العدد 3288 - الأربعاء 07 سبتمبر 2011م الموافق 08 شوال 1432هـ

هل كان القذافي يحكم دولة مصنوعة من القرطاس؟!

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

خمس صُور ميَّزت الولاءات بين نظامَي البعث في العراق والقذافي في ليبيا. الصور هي تاريخية، حزبية، طبقية، جغرافية وديموغرافية. تحدَّثتُ عن الأولى والثانية وأسبر غوْر الثالثة اليوم. فالمسألة الطبقية هي مشهد أصيل ليس في المسألة الاجتماعية أو الاقتصادية فقط، وإنما في السياسة كذلك، وهو الأمر ذاته الذي جعلها ملمحًا مهمًا من ملامح الفكر الماركسي.

ورغم أن الطبقية قد ارتبطت بتجمع من الأشخاص يُنجز عملاً واحدًا في إطار عملية إنتاجية واحدة كما كان يقول ماركس، إلاَّ أن الحقيقة هي أن تأطيرها في ذلك العنوان يُفقدها كثيرًا من كنهها. فتوسيع المفهوم يمنح الباحث فرصة النظر إلى ما هو أبعد من ذلك، وهو ما سأسعى إليه في هذه المقالة، حين أصِف أجزاء من الطبقات الاجتماعية ضمن وضعها المهني، وارتباطها بالطبقة الوسطى التي تعتبر أحد ديناميكيات المجتمع في صعوده وانحداره.

في الحالة الليبية، لم يكن النظام الليبي الذي أداره القذافي منذ العام 1969 ولغاية انهياره في أغسطس/ آب الماضي، بقادر على خلق حالة طبقية ليبية متجانسة في شكلها مع ما هو موجود في الدول الأخرى. فتشكـُّل الدولة الليبية على أفهام غامضة، وتسخير الثروة على أعمال لا تمت إلى التنمية البشرية بصلة، جعل من وجود طبقية كلاسيكية في ليبيا شبه غائبة لصالح مجتمع سياسي وهمي ليس به تكنوقراط ولا كوادر قادرة على الريادة والقيادة.

صحيح أن في ليبيا زهاء 13 جامعة مُوزعة على طرابلس وبنغازي وسبها والبيضاء والزاوية وسرت وخمس وترهونة وزليتن وغريان، إلاَّ أن تلك الجامعات كانت تمنح المجتمع الليبي بمخرجات أكاديمية لا يصلها بسوق العمل سوى فضاء قاتم من البطالة وصلت إلى 32 في المئة. كما أن ذلك القطع البيروقراطي والتنموي كان جليًا أكثر داخل نسيج الدولة الليبية التي تحكم الانتماء إليها والاستفادة من مواردها مسائل معقدة من الولاءات السياسية والقبلية تسبق الكفاءة، وهو ما أحالها إلى وضعية من الشلليَّة القاتلة.

وربما كانت تلك عقدة متأصلة في رأس النظام الليبي الذي كان زعيمه غير متعلم سوى في أوّليات العسكرية، ولا يجيد لغة العالـَم ولا معارفه، وكذلك ابنه سيف الإسلام الذي تورّط في عملية تزوير في شهادته الأكاديمية في مراحلها المتقدمة بعدما أعلنت جامعة سكول أوف ايكونوميكس في لندن أن «الجامعة تأخذ بكثير من الجديّة أيّ معلومة تتعلق بالتزوير، وتدرس المسألة طبقاً للإجراءات المعمول بها في لندن». وحتى عندما استعان النظام الليبي بكوادر متعلمة كموسى إبراهيم، آخر ناطق رسمي باسم الحكومة الليبية والمتعلم في جامعة إكسيتر بالمملكة المتحدة، ولديه دكتوراه في الإعلام من كلية رويال هولواي، كان تعيينه في هذا المنصب لاعتبارات تتعلق بكونه من قبيلة القذاذفة وليس لأمر آخر، وبالتالي لا مكان للمؤهل الأكاديمي والعلمي للفرد الليبي ما دام الأمر غير محسوم بالنسبة للولاء ليس للنظام فقط وإنما للقذافي نفسه ولعائلته.

لقد أدى ذلك إلى وجود فراغ ممنهج داخل أروقة النظام الليبي، فلا هو قادر على إدارة الدولة بطريقةٍ مهنيةٍ عبر تحديث أدائها بطبقة تكنوقراط موازية، ولا هو بقادر على جعلها تتخلص من زئبقيّة وأطوار القذافي الغريبة كما وصفها السفير الأميركي في طرابلس جين كريتز في العام 2009، والتي كانت تستوي عليها كل ممارسات الدولة الليبية من دون مراعاة تذكر لمسألة التخصص، والمشورة الدائمة، أو الاستماع لشخصيات من ذوي الحجا والرأي الحصيف.

في الحالة العراقية أيام البعث وجدنا أن ذلك غير موجود بالصورة التي ولـَّدها النظام في ليبيا. بعد انهيار الدولة العراقية في أبريل/ نيسان من العام 2003 ظهَرَ أن نظام البعث الدموي وغير الديمقراطي قد بنى لنفسه (سواء داخل الدولة أو المجتمع الحليف له من الكـُوَّة الحزبية) طبقة تكنوقراط متماسكة وبأشكال متنوعة. في السياسة والقانون والاقتصاد والعلوم الأخرى. لقد كان البعث يحكم بمنظومة أمنية قاسية إلا أنه أدار دولته بطريقة أشبه ما تكون بـ «الطغيان الناعم» كالذي حصل في روسيا القرن السابع عشر. وكانت طبقته خليطًا إثنيًا ومذهبيًا غريبًا في تركيبته، إلا أنه كان يعمل بشكل موجَّه ومعروف.

حتى محاكم الثورة في بغداد والتي أصدرت أحكام الإعدام القاسية بحق سجناء سياسيين، والجامعات العراقية التي كانت مُطوَّقة بالفكر البعثي كان دولابها من أولئك النفر المتعلمين. وجدنا جهابذة القانون الدستوري والجنائي قد خرجوا من العراق بعد الغزو، ووجدنا صحافيين وإعلاميين كباراً ظهروا من العراق، ووجدنا علماء ذرَّة واقتصاد وطب بشري قد خرجوا من العراق بعد الاحتلال، على رغم أن البلد كان مخنوقا بحصار دام 13 عامًا. لذا، فعندما سقطت بغداد في أبريل 2003 كنا فعلاً أمام مشهد انهيار دولة حقيقي وليس وهمياً كالذي رأيناه في ليبيا وكأنها مجتمع دولة كارتوني بامتياز. وتبيَّن أن دكتاتورية نظام البعث قد خلقت طبقة علماء وتكنوقراط وإن بضمير مُحَجَّم عبر انتماءاتها الحزبية له.

في كل الأحوال، فإن تشكـُّل هذه الطبقة المثقفة والمتعلمة والسماح لها بالنمو داخل الدورة الدموية الطبيعية للأنظمة (حتى ولو كانت أنظمة قمعية) فإنها تمنح تلك الأنظمة (في العادة) القدرة على مخاطبة الذات للمنتمين لتحولهم إلى إحدى القدرات المتوالية لشخصية الدولة القائمة، وبالتالي إلى مريدين وأصحاب ولاءات شديدة، وهو ما افتقده النظام في ليبيا وحافظ عليه النظام البعثي في العراق

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 3288 - الأربعاء 07 سبتمبر 2011م الموافق 08 شوال 1432هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 2 | 3:21 ص

      الجماعة الاسلامية المقاتلة الليبية

      حتى على مستوى العسكر لم يخلق القذافي جنودا ولا ضباطا اكفاء وهو ما رأيناه عندما دخل المجلس الانتقالي طرابلس حيث استعان بالجماعة الاسلامية المقاتلة الليبية

اقرأ ايضاً