العدد 3323 - الأربعاء 12 أكتوبر 2011م الموافق 14 ذي القعدة 1432هـ

المخلوقات الأسطورية: النشأة والمفهوم

يقال «مخلوقات أسطورية» و»حيوانات أسطورية» و»كائنات أسطورية»، ويقصد بها كائنات لا وجود لها في الطبيعة لأن وجودها يفتقد للدليل الفيزيائي، وهي كائنات وصفها من يؤمن بوجودها أو مَن زعم أنه رآها بصفات غريبة، وهذه الكائنات ليست حصراً على ثقافة دون أخرى؛ بل يمكن العثور في جميع الثقافات المعروفة على كائن أسطوري واحد على الأقل خاص بكل ثقافة، وفي كل ثقافة هناك من لا يؤمن بوجود تلك الكائنات الأسطورية، لكن دائماً ما يكون هناك البعض ممن يعتقدون بوجودها، وخاصة بعد دخول تلك الكائنات الذاكرة الشعبية للجماعة. وفي التراث العربي هناك عديد من تلك الكائنات الأسطورية كالغول والسعلاة والشق والقطرب وغيرها ومنها ما بقي ليومنا هذا كالغول وكذلك السعلاة؛ إلا أنها تسمى «سعلوي» و»سعلوة» و»سلعوة»، وقد تم إضافة أعداد أخرى من الكائنات الأسطورية لهذه القائمة وهي قائمة يتم تحديثها بصورة مستمرة مع تغير الظروف والمكان والزمان.


كائنات أسطورية أم خرافية

البعض يسمي المخلوقات الأسطورية بالمخلوقات الخرافية أو الحيوانات الخرافية أو الكائنات الخرافية لأنه لا يعتقد بوجودها، ولكن المصطلح الدقيق أن يقال أسطورية وليس خرافية، فالمصطلح «خرافي» يقتضي ألا أحد يؤمن بهذه المخلوقات بينما مصطلح «أسطوري» يدل على أن هذه الحيوانات مختلف عليها فهناك من يؤمن بوجودها وهناك من يعتقد بأنها خيالية. وقد أثبتت الدراسات أن هناك عديد ممن يؤمن بها، فإن أصبح الناس في مجتمعنا لا تؤمن بالغول والسعلوي والطنطل والخبابة واعتبروها من ضمن القصص والخرافات فإنه في ثقافات أخرى لم تتوقف مجموعة من الناس عن الإيمان بوجود كائنات أسطورية خاصة بها، وقد كشف البرنامج الوثائقي «Monster Quest» الذي عرض على قناة History (2007م – 2010م) هذه الحقيقة، ويتناول هذا البرنامج الذي يتكون من 68 حلقة في كل حلقة حيواناً أسطورياً في ثقافة معينة ويبدأ بتقصي حقيقته من الاستماع لشهادات الناس وآراء الباحثين المتخصصين، ومن خلال ذلك ترى العديد يؤمنون بوجود مثل تلك الكائنات. وكذلك برنامج «is it real?» والذي عرضته قناة «National Geographic» في 28 حلقة يسلط الضوء على مثل هذه القضية. لقد أدت عملية البحث في «الكائنات الأسطورية» لظهور متخصصين في هذا المجال ومع مرور الزمن تم استحداث علم خاص لدراسة هذه الكائنات التي لم يعد الباحثون يصفونها بالأسطورية؛ بل أصبحوا يطلقون عليها مصطلح «الحيوانات الخفية».


علم الحيوانات الخفية

تم استحداث مصطلح علمي يتضمن البحث عن الحيوانات الخفية وهو الكريبتوزولوجيا Cryptozoology، وهو مصطلح صاغه عالِم الحيوان الفرنسي بيرنارد هوفلمانز Bernard Heuvelmans في العام 1955م غير أن هوفلمانز نفسه ينسب صياغة المصطلح للمرة الأولى من قبل المستكشف الاسكتلندي إيفان سندرسون، وهو الذي اشتهر عنه بحثه الدائم عما «وراء الطبيعة» و»الحيوانات الخفية»، وأصل المصطلح مجموع من كلمتين: Crypto و zoology، الأولى هي كلمة يونانية في الأصل (kryptos) وتعني «خفي» أو «غامض»، وطبعاً الثانية تعني «علم الحيوان»، وبالتالي فالمصطلح يعني حرفياً: «علم الحيوانات الخفية» وهو علم مستقل وليس فرعاً من علم الحيوان. ومهمة هذا العلم هي التحقيق (وفق أساليب علمية) في فصائل حيوانية تم التبليغ عن وجودها لكن دون أن توثق بشكل رسمي أو البحث عن حيوانات تعتبر منقرضة كالديناصورات، وبصورة دقيقة فإن هذا العلم مخصص للبحث عن حيوانات يفتقد وجودها للدليل الفيزيائي لكنها مذكورة في الأساطير والقصص الخارقة أو البطولية والتقارير الشفاهية من أناس يعتقدون بأنهم شاهدوا هذه الحيوانات، وعادة ما تسمى تلك الحيوانات التي يُبحث عنها في هذا العلم «cryptids» وهو مصطلح تمت صياغته من قبل «John Wall» العام 1983م وتعني «الحيوانات الخفية».


نشأة الحيوانات الأسطورية

ذكرت عديد من الحيوانات الأسطورية في أخبار العرب قبل الإسلام، ويبدو أن غالبية تلك الحيوانات كانت من صنع أهل الحضر وخاصة المتأثرين بالثقافة اليونانية، وقد كانت في الأساس حيوانات حقيقية تمت المبالغة في وصفها حتى تحولت إلى أسطورية، وقد انتقلت مسميات تلك الحيوانات الأسطورية إلى أهل البادية وقد حدث تحوير في وصفها مع المحافظة على بقاء أسمائها. وقد ساعدت البيئة وظروف السفر في بيئات موحشة في انتشار وتعدد قصص تتعلق بتلك الحيوانات.

جاء في كتاب الحيوان للجاحظ (طبعة دار صعب ط3 1982، م2، ج6، ص 474 - 476): «وكان أبوإسحاق يقول في الذي تذكر الأعراب من عزيف الجنان، وتغول الغيلان: أصل هذا الأمر وابتداؤه، أن القوم لما نزلوا بلاد الوحش، عملت فيهم الوحشة، ومن انفرد وطال مقامه في البلاد والخلاء، والبعد من الإنس - استوحش، ولاسيما مع قلة الأشغال والمذاكرين. والوحدة لا تقطع أيامهم إلا بالمنى أو بالتفكير، والفكر ربما كان من أسباب الوسوسة، وقد ابتلى بذلك غير حاسب، كأبي يس ومثنى ولد القنافر. وخبرني الأعمش أنه فكر في مسألة، فأنكر أهله عقله، حتى حموه وداووه. وقد عرض ذلك لكثير من الهند. وإذا استوحش الإنسان تمثل له الشيء الصغير في صورة الكبير، وارتاب، وتفرق ذهنه، وانتقضت أخلاطه، فرأى ما لا يرى، وسمع ما لا يسمع، وتوهم على الشيء اليسير الحقير، أنه عظيم جليل. ثم جعلوا ما تصور لهم من ذلك شعرا تناشدوه، وأحاديث توارثوها فازدادوا بذلك إيماناً، ونشأ عليه الناشئ، وربي به الطفل، فصار أحدهم حين يتوسط الفيافي، وتشتمل عليه الغيظان في الليالي الحنادس - فعند أول وحشة وفزعة، وعند صياح بوم ومجاوبة صدى، وقد رأى كل باطل، وتوهم كل زور، وربما كان في أصل الخلق والطبيعة كذاباً نفاجأ، وصاحب تشنيع وتهويل، فيقول في ذلك من الشعر بحسب هذه الصفة، فعند ذلك يقول: رأيت الغيلان وكلمت السعلاة ثم يتجاوز ذلك إلى أن يقول قتلتها، ثم يتجاوز ذلك إلى أن يقول: رافقتها ثم يتجاوز ذلك إلى أن يقول: تزوجتها. قال عبيد بن أيوب:

فلله در الغول أي رفيقة

لصاحب قفر خائف متقتر

ومما زادهم في هذا الباب، وأغراهم به، ومد لهم فيه، أنهم ليس يلقون بهذه الأشعار وبهذه الأخبار إلا أعرابياً مثلهم، وإلا عامياً لم يأخذ نفسه قط بتمييز ما يستوجب التكذيب والتصديق، أو الشك، ولم يسلك سبيل التوقف والتثبت في هذه الأجناس قط، وإما أن يلقوا راوية شعر، أو صاحب خبر، فالراوية كلما كان الأعرابي أكذب في شعره كان أطرف عنده، وصارت روايته أغلب، ومضاحيك حديثه أكثر فلذلك صار بعضهم يدعي رؤية الغول، أو قتلها، أو مرافقتها، أو تزويجها؛ وآخر يزعم أنه رافق في مفازة نمراً، فكان يطاعمه ويؤاكله».


تأثير الحضارة اليونانية

هناك عديد من الباحثين الذين أعادوا بلورة ما ذكره الجاحظ في أصل نشأة تلك الكائنات دون الانتباه لنقطة مهمة وهي أصل تلك المخلوقات التي تحدث عنها الجاحظ وهي «الغول والسعلاة والشق»؛ إذ تم اعتبار هذه الكائنات الحية، وبحسب شهادة الجاحظ، أنها كائنات من نسج الخيال، غير أن التحقيق العلمي في هذه الكائنات كشف أن هذه الأسماء الثلاثة تخص أنواعاً من القرود، وهذه القرود لا تعيش في بيئة قريبة من الصحراء ليشاهدها البدو الرحل بل تعيش بالقرب من الحضارة حيث المياه والأشجار، وسنتناول في الفصول المقبلة تأثر العرب بأساطير القرود وسنتناول أيضاً أن عدداً من أسماء الكائنات الأسطورية عند العرب إما معرّب من اليونانية كالقطرب مثلاً، أو مترجم عن اليونانية كالشق أو اسم سامي قديم كالغول (ربما فينيقي الأصل)، حتى أساطير العمالقة عند العرب من المرجّح أنها أخذت عن الحضارة اليونانية وهي الحضارة التي نشأت فيها أساطير العمالقة وسنتناول ذلك بالتفصيل في فصول مقبلة. وقد سبق أن ذكرنا في فصول سابقة تأثر العرب بالنظريات اليونانية الخاصة بتحديد جنس المولود وخاصة نظريات أرسطو. كل ذلك يؤكد ما ذهبنا إليه في فصول عديدة سابقة من أن الثقافة اليونانية انتشرت بين العرب منذ حقبة ما قبل الإنسان بسبب التقارب بين العرب واليونان أو الرومان وانتشار الديانة المسيحية التي نشرت معها الثقافة اليونانية

العدد 3323 - الأربعاء 12 أكتوبر 2011م الموافق 14 ذي القعدة 1432هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً