غالبية الكائنات الأسطورية التي ذكرت في كتب التراث العربي هي كائنات حقيقية تم المبالغة في وصفها حتى تم تحويلها لحيوانات خارقة ومنها ما حولوه إلى مخلوق أقرب للجن منه إلى الحيوان، وقد حقق أمين معلوف في كتابه «معجم الحيوان» في العديد من تلك الكائنات محاولاً رد تلك المسميات الأسطورية إلى حيوانات حقيقية وقد لاحظ معلوف أن عدداً من تلك المخلوقات ما هي إلا أنواع من القرود تم وصفها بوصف غريب بل إن عرب الجاهلية عدوها من الجن أو المتشيطنة. ولم تكن تلك الأوصاف الأسطورية من نتاج سكان الصحراء بل كانت من صنع أهل الحضر وخصوصاً أولئك المتأثرين بالثقافة اليونانية؛ إذ إن تلك الأنواع من القرود وصفت بأوصاف شبيهة بالأوصاف الأسطورية التي تصفها بها العرب. لقد استمر الوصف الأسطوري وانتقل من جيل إلى جيل حتى يومنا هذا، وسوف نتناول على عدة فصول تلك المخلوقات الأسطورية أو تلك الأنواع من القرود وسنبدأ بالاسم الأكثر شهرة وهو «الغول».
وهو عند العرب الأولين من المتشيطنة أو الجن، وهو مشهور ومعروف في المؤلفات العربية وعند العامة وفي الوطن العربي عموماً، وقد وصف في المؤلفات العربية بأوصاف منها أن خلقته خلقة الإنسان ورجلاه رجلا حمار. ويقول المسعودي في «مروج الذهب» بأن الغول حيوان شاذ من جنس الحيوان لم تحكمه الطبيعة وأنه لما خرج منفرداً في نفسه وهيئته توحش في مسكنه، فطلب القفار، وهو يناسب الإنسان والحيوان البهيمي في الشك، وكانت العرب قبل الإسلام تزعم عن الغيلان أنها توقد بالليل للعبث والتحيل واختلال السابلة وأنها تظهر للمسافرين في الصحراء فتحاول أن تسخر منهم وأن تعبث بهم وأن تضلهم عن طريقهم، فيتيهون في الصحاري.
على رغم أن العرب متفقة بصورة عامة أن الغول من المتشيطنة إلا أنهم اختلفوا في معاني كلمة الغول وصفات الغول، جاء في معجم «تاج العروس» مادة «غول»:
«الغُولُ، بالضَّمِّ: الهَلَكَةُ، وكُلُّ ما أَهلَكَ الإنسانَ فهو غُولٌ، وقالوا: الغَضَبُ غُولُ الحِلْمِ، أَي أَنَّه يُهْلِكُهُ ويَغتالُه ويَذهَبُ به. الغُولُ: الدَّاهِيَةُ، كالغائلَةِ. الغُولُ: السِّعلاةُ، وهما مُترادِفان، كما حقَّقَه شيخُنا، وقال أَبوالوفاءِ الأعرابيُّ: الغُولُ: الذَّكَرُ من الجِنِّ، فسُئلَ عن الأُنثى فقال: هي السِّعلاةُ، ج: أَغْوالٌ وغِيلانٌ، وفي الحديثِ: «لا صَفَرَ ولا غُولَ»، قال ابنُ الأَثيرِ: أَحَدُ الغِيلانِ، وهي جِنْسٌ من الشَّياطينِ والجِنِّ، كانت العرَبُ تَزعُمُ أَنَّ الغُولَ يَتراءَى في الفلاةِ للنّاسِ فتَغُولُهُم، أَي تُضِلُّهُم عن الطَّريقِ، فنفاهُ النَّبيُّ صلّى الله تعالى عليه وسلَّم وأَبطلَه، وقيل: قولُه: لا غُولَ، ليسَ نَفياً لِعَيْنِ الغُولِ ووجودِه، وإنَّما في إبطالُ زَعمِ العَرَبِ في تلوُّنِه بالصُّوَرِ المُختلفةِ واغتيالِه، أَي لا تستطيعُ أَن تُضِلَّ أَحداً. قال الأَزْهَرِيّ: العرَبُ تُسَمِّي الحَيَّةَ الغُولَ، ج: أَغوالٌ، ومنه قولُ امرئِ القيسِ:
ومَسنونَةٌ زُرْقٌ كأَنيابِ أَغوالِ... الغُولُ: ساحِرَةُ الجِنِّ، ومنه الحديثُ: «لا غُولَ ولكنْ سَحَرَةُ الجِنِّ» أَي ولكن في الجِنِّ سَحَرَةٌ لهم تَلبيسٌ وتَخييلٌ. الغُول: المَنِيَّةُ، ومنه قولُهم: غالَتْهُ غُولٌ... قال النَّضْرُ: الغُولُ: شيطانٌ يأْكُلُ النّاسَ، وقال غيرُه: كلُّ ما اغتالكَ من جِنٍّ وشيطانٍ أَو سَبُعٍ فهو غُولٌ، أَو هي دابَّةٌ مَهُولَةٌ ذاتُ أَنيابٍ رأَتْها العرَبُ وعرفَتْها وقتلَها تأَبَّطَ شرّاً، جابِرُ بنُ سُفيانَ الشاعِرُ المَشهور. الغُولُ: من يتلَوَّنُ أَلواناً من السَّحَرَةِ والجِنِّ، وفي الحديث: «إذا تَغَوَّلَتْ لكمُ الغِيلانُ فبادِروا بالأَذانِ» أَي ادْفَعوا شرَّها بذِكْرِ الله، وذُكِرَت الغِيلانُ عندَ عُمرَ رضي الله تعالى عنه، فقال: إذا رآها أَحدكم فليؤَذِّنْ فإنَّه لا يَتحَوَّلُ عن خَلْقِه الذي خُلِقَ له».
مما سبق يمكننا الاستنتاج أن الغول عند العرب اعتبر نوعاً من الجن وكان معرفاً منذ حقبة ما قبل الإسلام وكان عرب الجاهلية يؤمنون بوجوده وذكروه في أحاديثهم وقصصهم وأشعارهم. وبعد الإسلام ورد ذكر الجن كمخلوقات حقيقية، كذلك تم ذكر الشياطين والملائكة. نتج عن ذلك أن عرب ما بعد الإسلام آمنوا بوجود الجن ومنهم من آمن بأحاديث وأشعار ما قبل الإسلام أي آمن بوجود السعالي والغيلان، بمعنى آخر أن هناك من لم يفرق بين قصص الجاهلية عن الجن وأحاديث الجن بعد الإسلام؛ إلا أن هناك عدداً من الكتاب العرب من أمثال الجاحظ والمسعودي، ففي كتابات هؤلاء يمكن للقارئ أن يلاحظ موقفين مختلفين من الجن والسعالي والغيلان والشياطين والملائكة، الأول وهو موقفهم من الغيلان والسعالي والجن حيث تساق أخبارهم بصورة أقرب للخرافة فتلك الأخبار تنقل تصور أعراب الجاهلية للجن، وأما الموقف الثاني فهو الموقف من الجن والملائكة وإبليس وجبريل وهذا يساق في أخبار الجد فهي صورة الجن كما وصلتنا في المدونات الإسلامية، إذاً فهناك فرق «بين عالم الجن والغيلان والسعالي من جهة وعالم الجن والشياطين والملائكة من جهة أخرى. أما العالم الأول فهو الذي تصوره لنا أخبار العرب القدامى وأشعارهم ورأينا بعضه عند الجاحظ والمسعودي في خطاب ينزله منزلة الخرافة، منزلة الأقاويل والكلام الذي يستظرف إلا أنه لا يحمل محمل الجد. أما العالم الثاني فيتقوم من الجن والشياطين والملائكة مثلما يرد الحديث عنها في خطاب يجري مجرى الجد والحقيقة، ضمن كتب التاريخ والتفسير والعقائد وما إليها» (عجينة 1994، ج2: ص 20).
قام أمين معلوف بالتحقيق في اسم الغول ووصل إلى نتيجة مفادها أن الغول هو الغوريلا Gorilla الذي ينتمي إلى عائلة Pongidae والتي ترجمها أمين معلوف باسم عائلة السعالي حيث ينتمي لهذه العائلة نوع من القردة اسماها معلوف السعلاة إلا أن كل من الغول والسعلاة ينتميان لجنسين منفصلين، والغول أكبر حجماً من السعلاة (معلوف 1985م، ص 117)، وسيأتي الحديث عن السعلاة في الفصل المقبل. أما ما ورد في معجم «تاج العروس» (وكذلك معجم «لسان العرب») والذي ينص أن الغول هو الحية فهذا صحيح؛ إذ مازالت تسمى الحية في عُمان «غول» وقد خصّ Gallapher في كتابه عن أفاعي الخليج العربي نوعاً من الحيات باسم غول وهو Pseudocerastes persicus أي الأفعى القرناء الكآذبة False Horned viper وهي أفعى سامة خطيرة.
جاء في معجم «الحيوان» لأمين معلوف عن لفظة غوريلا أن أول من أطلقها على نوع من القرود هو العالم الفرنسي جيفروي في أوائل القرن التاسع عشر ومازال يعرف هذا القرد بهذا الاسم حتى يومنا هذا، وقد نقل جيفروي الاسم عمّا ورد في رحلة منسوبة إلى حنون القرطاجي والمتوفى قرابة العام 440 قبل الميلاد حيث يروى أن حنون «قام برحلة في جماعة من رجاله لارتياد سواحل إفريقيا فمروا ببحر الزقاق أي مضيق جبل طارق وواصلوا السير حول الساحل الغربي من إفريقيا على أن بلغوا جوناً رأوا فيه جزيرة فيها بحيرة وفي البحيرة لقوا جزيرة أخرى لقوا فيها قوماً طوال الشعر فقاتلوهم ففرّ الرجال؛ أي الذكور وقبض حنون وجماعته على ثلاث نساء حاولن التملص منهم بالعض والتخديش فاضطروا أن يقتلوهن ثم سلخوا جلودهن وجاءوا بها إلى قرطاجنة ووضعوها في معبد اللات أي يونون. وقد سمى التراجمة هذه النساء أو الإناث غورليات واحدها غورلى. وكتب حنون رحلته باللغة الفينيقية في لوح علق بالمعبد مع الجلود وبقي اللوح والجلود هناك إلى خراب المدينة وحفظت ترجمة يونانية لهذه الرحلة إلى يومنا، ثم لما وصف العلماء هذا القرد سماه جفروي غورلى كما جاء في رحلة حنون القرطاجي. ولعل التراجمة الذين كانوا مع حنون سموا هذه القرود غيلاناً أي أنهم تكلموا بلغة يفهمها حنون ورجاله؛ أي بلغة فينيقية وهي لغة سامية شبيهة جداً بالعربية فلم يكن لهم إلا أن يسموا الواحدة من هذه القرود غولاً كما سمى عامة المصريين الشمبانزي... غولاً لما رأوه في حديقة الجيزة للمرة الأولى... ولا يبعد أن الذين نقلوا رحلة حنون إلى اليونانية حرفوا اللفظة وجعلوها غورلاً» (معلوف 1985م، ص 14).
أضف إلى ذلك أن الاسم «غول» معروف في إفريقيا ويطلق على نوع من المتشيطنة، وجاء في وصفه في بعض المناطق أن له عيناً واحدة وهذا وصف قريب من العملاق المسمى «سيكلوب» في الأساطير اليونانية، ومن المسلَّم به أن سوء لفظ الاسم «غول» حيث يلفظ أحياناً غرول وغرول أدى إلى ظهور الاسم «غورلى» (Gordon 199، p. 275)
العدد 3327 - الأحد 16 أكتوبر 2011م الموافق 18 ذي القعدة 1432هـ