العدد 3344 - الأربعاء 02 نوفمبر 2011م الموافق 06 ذي الحجة 1432هـ

آلام القلب من زوجة الأب

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

ونحن في نهاية الأسبوع، نترجَّل عن كتابات السياسة قليلاً. فهي تأكل ما لها وما لغيرها من اهتمام دون حساب. نتحدث عن أمرٍ أسَرِيّ إنساني صرف، هو للبعض مسألة حياة أو موت دون أن ندرك ذلك مع شديد الأسف. ربما سيؤلم الحديث أصحابه، ومَنْ هم مُبتَلَون بتفاصيله، لكن طرحه ضروري، وواجب التنبيه فيه وحوله ما أمكن، بعد أن وصل الأمر إلى منتهاه.

تبدأ القصة من هنا. أصيبت الأم بورمٍ سرطاني قاتل في أحشائها، فلم يُمهلها المرض أزيد من تسعين يومًا لتلتحق ببارئها. قبل وفاتها بيوميْن، أسَرَّ الطبيب المعالج في أذن الزوج، بأن زوجته قد أزِفَت ساعات عمرها، وهي بانتظار رحمة السماء. لم يُخبر الأب ابنتيْه بذلك؛ لحداثة سنَّيْهما. فالكبيرة لا يزيد عمرها على 12 عامًا، في حين، يبلغ عمر الأخرى خمسة رِبَاع.

حداثة سنِّ البِنتيْن المسكينتيْن أو رشدهما، لم يمنع من أن أمهما قد شدَّت إزار الرحيل عنهن إلى غير رجعة، وأن عليهن أن يتمرَّنوا على استذكار أن ذلك الحضن الدافئ الذي كانتا تضَّجِعان عليه للرضاع وهما في منتهى الغنج والراحة، سَيُحفَى عليه التراب، وتسري إليه الديدان الآثمة، تقرضه نهَمًا، لتجعله أثرًا بعد عيْن، في استلاب غير عادل لعطاء إنساني لا قِبَل لأحد به في ثقله.

كان زوجها بجانبها عندما أسلمَت الروح، في مشهد يُقطِّع نِياط القلب. فقد أوصته قبلاً بابنتيْهِما خيرًا، طالبة منهنَّ العذر من أنها لم تستطع أن تكمِل معهما مشوار الحياة، لتنعما بحنانها وعطفها عليهما. دقائق فقط، حتى رأى عينيها وهي تبيَض، ثم تعمى تمامًا، وفاهها مفغورٌ، وأصابعها قد التوَت، وفصوصها وأرساغها قد ذوَت، وقدماها قد شُدَّتا إلى الأمام شدَّاً، لكأن أحدًا قد سحبهما بكلتا يديه بقوة. كان المشهد رهيبًا حقًا، ولا يُتصوَّر.

في البيت، كانت البنتان مَدْهُوشتين من هذا الحدث الجلل، وسط المعزين. البنت الصغيرة، لم تكن تدرك الأمور كما يجب؛ فعمرها لم يتجاوز الخمسة أعوام، لذا، فقد التزمت الطفلة صمتًا مخيفًا، مع فرحة مُصطنعة، من أن أمها قد ذهبت إلى الجنة، مثلما أخبروها. كان ذلك أشبه بمسَكِّن ما لبِث أن تهاوى وانهَد. فقد جاءت الليالي الليلاء بسوادها المخيف، لتجثم على صدرها النيء، غير تاركة لها شيئًا سوى استحضار أمها الراحلة، ولكن بدون أمل!

يتزوَّج الأب، فتأتي امرأة أخرى تُتَوَّج كسيدة على البيت. تبدأ معاناة البنتيْن مع ذلك العهد الأسَرِي الجديد. معاناتهما كانت، باستشعار الفرق بين الأم الراحلة، وتلك المتشبهة بها. النظرات تختلف. الحديث معها يختلف. الرعاية والحنان لا مكان لهما. وَصَلَ الأمر إلى التقريع والتعنيف باليد، فضلاً عن صديد الكلام وبذاءته، والذي يصمّ آذانهما صباح مساء. وعندما جاء الأخوة غير الأشقاء، زادَ الأمر سوءًا، بتفضيلهم عليهما، حتى غدَتا مجرَّد نزيلتيْن غريبتيْن، أو أنهما مواطنتان من الدرجة الثالثة، تعيشان في الأبارتيد. نقطة نهاية السطر.

هذه القصة ليست هولويودية. فهي حقيقية بالتمام، وربما يقرأ أبطالها حديثي الآن، لكن الأهم من كلّ ذلك، هو مناقشتها «إنسانيًا واجتماعيًا». فزواج الآباء بعد وفاة زوجاتهم أمر مشروع جدًا، لكن ما هو ليس بمشروع وليس بجائز، هو أن تأتي امرأة لا تعرف الرحمة على مَنْ تتولَّيْن من اليتامى. فليس من العدل أن تنتهي حياة أولئك الصغار، بموت والدتهن، ليبدأ الأب حياته (مع زوجته) من جديد، دون اكتراث بهنّ، أو اعتبارهنّ صورة من التاريخ، يُمكن أن تطوَى، أو تذوب بكل اختلافاتها وألوانها في لوحة جديدة. هذه جناية أخلاقية لا تغتفر.

وقفتُ على تجارب مريرة أخرى في مجتمعنا يندى لها الجبين، وتقشعرّ لها الأبدان. زوجاتٌ للآباء، يقسون على أولاد أزواجهِنَّ الصغار إلى درجة الحرمان حتى من الراحة الجسدية. بعضهنَّ يستخدمنهم كسُخرة في أعمال البيت. وبعضهنَّ يحرمنهم من لبس الجديد، ووضع الطِيْب، وزيارة الطبيب، ومؤانسة الحبيب، والضرب بالحديد، والكلام الصديد، في مشاهد مقزِّزة، تذكِّر بأقصى درجات القسوة، التي سجَّلها البشر على بعضهم.

قبل بضع سنوات، أظهرت دراسة قامت بها جامعة برينستون بولاية نيوجرسي الأميركية، أن «الأطفال الذين تربِّيْهم زوجات آبائهم، لا يحظون برعاية صحية وتعليم جيد، كما أن المصاريف التي تنفق على تغذيتهم مقارنة مع الأطفال الذين تربيهم أمهاتهم البيولوجية تكون أقلّ. إذًا، الموضوع لا يتعلق فقط بشكوك أو هواجس، بل إن شكله قد تمَّ تأطيره علميًا. صحيح أن هناك زوجات للآباء، أثبتن أنهنَّ على قدَر المسئولية، وغاية في الإنسانية والنبل، لكن الغالب، هو أنهنَّ يجنحن إلى زلَلٍ عظيم، لا يقبل به مرفق العدل.

عندما ودَّعت كريمة النبي محمد (ص) أولادها وهم صغار أوصَت عليًا أن يختار لهم أمًا تحنو عليهم، فاختارَ فاطمة بنت حزام بن خالد بن ربيعة الكلابية، فكانت لهم كأمهم، ودفعت أولادها للدفاع عنهم دون حساب، ودون لحظة تردّد حتى. وعندما توفيت والدة إبراهام لنكولن الرئيس السادس عشر للولايات المتحدة الأميركية وهو في عمر التاسعة، تزوَّج أبوه من سارة بوش جونستون، فكانت له أحنَّ من أمه، ودفعته لدراسة المحاماة، وامتهان السياسة، رغم أنها كانت أميَّة، ولا تحسن القراءة ولا الكتابة، فكان له شأوٌ كبير في التاريخ الأميركي، وهو ولآخر أيام عمره، كان يتذكَّر لها ذلك الجميل، بل ويعتبرها السبب الأول فيما وصل إليه.

خلاصة القول، إن المسئولية تبقى كبيرة على الزوجات، ممن يَلِجنَ بيوتًا كُلِمَت بفقد الأم. والحال يقول، إن طبيعة الموقف، يتطلب صبرًا من هذه الزوجة على أطفال زوجها، فهم فاقدون إلى نصف حياتهم أو أكثر نتيجة فراقهم لأمهم، وبالتالي يتوجب تحمّلهم، ومراعاة مشاعرهم، لأن ما هم فيه هو داخلٌ في طبيعة التكوين البشري، وخارج عن سيطرتهم. بل إن المنطق يتطلب أن يُمنحوا قدرًا أكبر من الرعاية عن غيرهم، في اللبس والمأكل والمشرب، وفي المداراة، فهم في نهاية الأمر صدقة جارية، تنفع صاحبها، وتسعفه عندما يحتاج إليها. (للحديث صلة)

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 3344 - الأربعاء 02 نوفمبر 2011م الموافق 06 ذي الحجة 1432هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 7 | 2:51 ص

      ام ناصر

      أخي محمد،

      حاولت ان اقرأ المقال مرتين، فتمتلأ عيناي بالدموع من اول فقرتين، لم استطع اكمال المقال لأن كلماتة تقطع نياط القلب من شدة الألم.

      الله يحفظ كل أم على وجهه المعمورة ، فبدون الأم لا حياة لنا، ورحم الله كل ام سكنت التراب وتركت ورأها ايتاما كان قدرهم اليتم و الحرمان.

    • زائر 6 | 1:48 ص

      فاطمة بنت حزام بن خالد بن ربيعة الكلابية

      والنعم فيها

    • زائر 5 | 1:41 ص

      نساء أول غيييير

      من خبرتي في الحياة أرى أن نساء العهد السابق ( امهاتنا الأوليين ) لا يكنون عداوة لأبناء أزواجهن رغم أنهم أميات ، الرحمة في قلوبهم والقناعة عندهم كنز لا يفنى، قليل منهن من ترفع صوتها في حضور زوجها. لكن نساء الجيل الجديد مختلفين تماما ، مزاجهم صعب همهم ملذات الدنيا ومباهجها، صلتهم بتعاليم الإسلام ضعيفة، لا يتقبلون الطرف الآخر ، إذا كانوا لا يكترنون بأبنائهم وماذا يفعلون، هل تتوقع أن يهتموا بأبناء غيرهم؟ لذا فالمقارنة بين الجيل الماضي والحاضر في مثل هذه الأمور مقارنة غير واقعية، اللهم احفظ الجميع.

    • زائر 4 | 1:16 ص

      لو عدمت خربت

      أكيد يوجد هناك نماذج أخرى ولكن الغالب يظهر ان زوجات الأب فعلا لا يرحمون ابناء ازواجهم

    • زائر 3 | 12:13 ص

      قصتك يا استاذي ابكتني

      كانك ترجمت الهواجس الي بقلبي الفرق بيني وبين القصة ان اهيه ماتت والاب موجود اي زوجها بينما انه ام مطلقة واعاني من مرض ودائما اطلب من ربي يطول من عمري مب عشان حبا بالحياة لكن عشان اليهال الي عندي الي ابوهم مايدري عنهم تزوج ونسى ان عنده اولاد لما اموت شنو بكون مصيرهم اذا الحين مايدري عنهم تتصور باجر لما ياخذهم بتكون زوجته حنونه عليهم او بترعاهم الحين احنا بزمن محد لاحد اذا الابو مايدري عن عيالة اكلو او لبسو تبي من زوجه اب تهتم بعيال زوجها مستحيل بجد احنا ببلد مسلم بلا مسلمين

    • زائر 2 | 12:06 ص

      اشكرك

      كلمات واقعيه تلامس القلب وتجعلني اسجد لله شكرًا على أمرين اولهم زوجة والدي الحنون التي لم ترفع صوتها يوما بغيض ولازلنا أنا واخوتي نتذكر طفولتنا الجميله تحت رعايتها لكون والدتي تعمل حينها والثاني أني لم أتزوج بعد انفصالي وأثرت تربية أبنائي خوفا مما تطرقت له يا اخي الكريم ليس خوفا من جميع النساء ولكن حرصا على كل مالدي وهم طفلان اخشى عليهما ما لا اعلمه

    • زائر 1 | 11:38 م

      ------

      تدمي عيني مثل هذه الامور بس أقول أن على الاب إما أن يكون قويا بما فيه الكفاية ويتأكد بنفسه مرارا وتكرارا عن راحة ابنائه مع الزيجة الجديدة وعدم استعمالهم من قبلها فان لم يكن قويا بما فيه الكفاية فإن عليه عدم الزواج
      هذا رايي لأنه لا يمكن ان يقوم بهذا العمل لحسابه الخاص على حساب البنات والابناء الصغار الضعفاء

اقرأ ايضاً