العدد 3395 - الجمعة 23 ديسمبر 2011م الموافق 28 محرم 1433هـ

حكاياتُ الأرصفة

ياسر حارب comments [at] alwasatnews.com

للانتظار طعمٌ آخر عندما يكون على رصيف قديم، مزدحم بالناس والمشاعر، تتجاور على صفحته أقدام المارة والحَمَام. يُخيّلُ إليَّ أن بعض المدن بنيت من أجل أرصفتها، حيث يُعد الرصيف فيها الملجأ الذي يرتمي عليه الهاربون من شظف العيش، ومن ثقل المسئوليات. في تلك المدن، تتزين الأرصفة بالأمنيات، وتتعطر أجواؤها بعبق القهوة التي تُقدّم مع أولى خيوط الشمس وآخرها، تحت ظلال الأغصان المنتشية بالحياة. إحدى أجمل الأحاسيس التي تخالجنا هي عندما تمتزج رائحة القهوة الصباحية برائحة أوراق الأشجار المُبللة بأمطار الليلة الماضية.

للأرصفة حكايات تنتظر أن تروى؛ حكايات الشحاتين وقصص العاشقين الأبدية، فلا تكاد تخلو الأعمال الروائية العظيمة من رصيف دارت عليه أحداثٌ جسام، تنوّعت بين اللقاء والفراق، وبين سقوط القنابل وتفتح الأزهار.

للرصيف مكانٌ في قصص نجيب محفوظ، حيث كان يجلس في مقهى الفيشاوي ويكتب عن المارة ولهم.لقد كان منجماً من الحكايات الإنسانية المتنوعة.

وللرصيف مكانةُ عند المنتظرين؛ فانتظار الأحباب يجعل من الأرصفة أحباباً آخرين، لا نعرف قدْرهم حتى نفارقهم. قد ننسى كثيراً من الذكريات، ولكننا لا ننسى الأرصفة التي جمعتنا يوماً بمن نُحب.تخيلوا مدينة تخلو من أرصفة؟ يا لسذاجة الانتظار حينها، ويا لكآبة المكان!

رصيف الميناء مسرح من مسارح الحياة، أبطاله العتالون المنهزمون، والربابنة الأباطرة، الظالمون في أغلب الأحيان. الجمهور الوحيد على أرصفة الموانئ هي السفن، إلا أنها لا تعرف كيف تبكي أو تصفق.رأيتُ مرة عتّالاً فقيراً في أحد الموانئ وهو يبحث في صندوق القمامة، توقفتُ وحاولتُ أن أعطيه بعض النقود، فرفض، وعندما سألتهُ عن السبب قال لي بأن ربان «السفينة الخشبية المهترئة» التي جاؤوا عليها يرفض أن يأخذ أحد أفراد طاقمه صدقة. فسألته: «لماذا إذن لا يُعطيكم ما يكفيكم حتى لا تحتاجوا إلى الآخرين» فقال: «حتى نبقى في حاجة دائمة إليه». لو قُدّرَ لروائي أن يقضي وقتاً على ذلك الرصيف لكتب مسرحيات تراجيدية ربما تكون أفضل من أعمال شكسبير.

عندما نسافر يصبح الرصيف ورقة بيضاء نكتب عليها بخطواتنا ما نتمنى، ثم نعود بعد عام لنعيد الكتابة على الرصيف نفسه، لا لكي تتحقق الأحلام؛ ولكن حتى لا يبهت لونها.يظن الناس أن أحجار الأرصفة تتشابه، لكنها ليست كذلك، فهي كبصمات الأصابع، يُخيّلُ لنا من جَهْلنا أنها متطابقة. إن الفروقات بين الأصابع وأحجار الأرصفة ليست في الشكل فقط، ولكنها في ثقل الآلام التي احتملتها عبر السنين. الأرصفة لا تعرف التلفيق، ولكنها لا تعرف الكلام أيضاً؛ ولذلك فإنها أقرب شيء للأحلام، نحبها كثيرا ولكننا نعجز عن شرحها للآخرين.

كم تُشبه بعض الأرصفة عقول المتشائمين، لا يكسوها سوى الأبيض والأسود، ويكفي أحدهم أن يرفع رأسه ليرى الألوان البهية التي تنتشي بها الحياة من حوله.تمنيتُ لو كان بيدي سلطة تلوين تلك الأرصفة؛ لمنحتُ كل عابر لها فُرشاة وتركته يختار اللون الذي يحب.

الرصيف هوية المدينة، وأحد مقاييس تحضر سُكّانها. تأسرني المدن المرصوفة بعناية، تلك التي تدعوك لاستخدام قدميك بقدر ما تستخدم فيها عقلك، كم يستفزنا الرصيف للمشي والتفكير؟ إن أسوأ المدن هي التي تحرمك من استخدام قدميك أو عقلك أو كليهما.

في المدن المرصوفة، يُستخدم الرصيف لمنح الناس فرصة للتأمل، وفرصة للرياضة، وأخرى للفرجة. عند زيارتك لإحدى المدن الفرنسية أو الإيطالية أو الأميركية؛ ستجد بأنهم يهتمون بالأرصفة أكثر من الشوارع، لأن الأرصفة للبشر والشوارع للآلات.

تبدو غالبية مدننا العربية كئيبة لأنها تكاد تخلو من أرصفة، وتلك الموجودة لا تمنحك الأمان للمشي عليها، فهي إما ملغومة بحفرة تصريف المجاري المفتوحة، أو ضيقة وقاصرة كطفل لم يكتمل نموه.كم سيئة هي المدن التي لا تحترم من يحاول عبور الشارع من مكان خطوط المشاة.إن من يعبر الشارع في مدينة عربية كمن يعبر المحيط الأطلسي بقارب صيد.

الأرصفة هي تجاعيد المدن، وكلما اهترأت انهالت الشيخوخة على المدينة. لا يكفي أن نعيد طلاء الرصيف مرة كل عدة أعوام؛ نحتاج إلى عمليات تجميل كثيرة حتى نعيد لمدننا نضارتها.

يا لوفاء الأرصفة، يبصق عليها الإنسان، ويرمي عليها مخلفاته، وتظل تحمله حتى عندما يُفقده الحزن القدرة على حمْل نفسه.لكل إنسان حكاية مع رصيف، وعلاقة وجودية لا يكتشفها إلا عندما يبقى وحيداً، أو يُردُّ إلى أرذل العمر.

عندما تباغتك الشيخوخة، وتفقد القدرة على استرجاع ذكرياتك الجميلة، وتنسى أين وضعتَ دفاتر مذكّراتك، فاطلب من أحدهم أن يخرج بك إلى الرصيف؛ فالأرصفة لا تنسى ولا تعرف الكذب. سألني أحدهم: «هل الرصيف هو الحقيقة؟» فقلتُ له: «وقد تكون الحقيقة هي الرصيف»

إقرأ أيضا لـ "ياسر حارب"

العدد 3395 - الجمعة 23 ديسمبر 2011م الموافق 28 محرم 1433هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 3 | 11:19 ص

      Zainab Radhi

      و لكن في بحريننا اجتاحوا كل ما فيها ! اجتاحوا ارصفتنا , خضبوها بالدماء , فعلا كل رصيف له حكاية تحكيه , و نحن جميع أرصفتنا تحكي لنا حكاية دمعة و حكاية شعب اتشح بالسواد , أرصفتنا كم هي مظلومة , أرصفتنا تذكرنا بأياد مكبلة , في ذاك الرصيف سقط شهيدنا و في الرصيف الآخر دمعات تحكي واقع أليم اجتاح عاطفة أم خطفوا ابنها ! تلك هي أرصفتنا !

    • زائر 2 | 6:56 ص

      لله ... كم هي مظلومة أرصفتنا !

      آهات تكسو أرصفتنا،تذوق الهوان وتحمل بالشقاء الضيم ،مرة تتخضب بالدماء ومرات تروى بالدموع المنهمرة مدرارا؛من هول مصائب الظلم ،نرى هنا نعوش شباب طلّقوا الدنيا وهناك شباب اقتيد بأيدي مكبلة وأعين معصبة وهناك غمامات سحب غازية سامة ومسيلة للدموع وفعلاً " قد تكون الحقيقة هي الرصيف " فأرصفتنا عضلة لم تتقلص وهي الشاهد الوحيد علّ وعسى يكترث الضمير الإنساني لأشلائنا المبعثرة ولدمائنا المهدرة . وتحياتي لكم ... نهوض

    • زائر 1 | 11:44 م

      نعم يبن حارب انها الارصفه

      طالما ارتبطت الارصفه بجكايات وذكريات العشاق فعادتا بعد وداع الحبيب وتحرك القطار او السفينه او السياره التى تحمل قلب ولب العاشق تفشل ارجله على حمله لهول الفراق فيستنجد باقرب رصيف يجلس عليه وبجتر اجمل الذكريات مع المحبوب الراحل تراه جالس على ذلك الرصيف بغض النظر عن مكانته الاجتماعيه يتقلب بين رحى صومعه الحب العذري متمنيا لو توقف الزمن قليلا ليشبع وداعا وقبل ان يعود من حيث اتى تراه منحنيا يقبل ذاك الرصيف بغض النظر عن نظافه او قذارة ذلك الرصيف انها ارصفة العشاق المقدسه يبن حارب

اقرأ ايضاً